المُختلف فعلاً في الحكومة الجديدة، بتحالفاتها المحدثة وسلسلسة الانقلابات على الذات وعلى الآخرين، أنها لا تشبه اياً من حكومات الحقبة السورية في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، ولا حكومات الحقبة الملتبسة في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة. لم تتغيّر المرجعيات التي رافقت المراحل الثلاث، سواء كانت في صلب القرار والسلطة مذذاك او على هامشهما. الا ان ادوارها انقلبت حقاً الآن، صعوداً او هبوطاً.يصحّ القول ان الكثير المهم لم يتغيّر منذ اولى حكومات ما بعد وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، وهي حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990. حينذاك كانت: ثلاثينية في غالبيتها، سُمّيت حكومات وحدة وطنية، مشابهة لمجلس النواب الممدد له او المنتخب من غير تطابق، مرجعياتها نفسها وتوازناتها كذلك. لم يتغيّر ايضاً الكثير المهم منذ اولى حكومات ما بعد اتفاق الدوحة، وهي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2008: الافرقاء يقدرّون حصصهم ويختارون حقائبهم، الثلث +1، الفيتو المذهبي، رئيس مكلف يُدعى الى تأليف الحكومة الا ان الافرقاء الآخرين شركاؤه الفعليون في التأليف ولا يسعه تجاهلهم، الاكثرية وهمية والاقلية فاعلة.
على نحو مواصفات مرحلتي ما بعد عامي 1990 و2008، يصحّ القول ان حكومة 2019 تشبهها. مع ذلك، ثمة كثير آخر تبدّل:
1- صائبٌ هو القول ان حكومة 2019 جارت القواعد الدستورية التي نصّ عليها اتفاق الطائف للتأليف، بدءاً بالاستشارات الملزمة مروراً بتسمية الرئيس المكلف ثم استشاراته مع الكتل والنواب الفرادى وانتهاء بصدور مراسيمها. صائبٌ ايضاً انها جارت الاعراف الموازية، لكن الجوهرية، التي اوردها اتفاق الدوحة - وقد باتت بفعل الممارسة اقرب الى قواعد دستورية غير منصوص عليها - حيال اشتراط الافرقاء الحصص والمقاعد ونصاب الثلث +1 والتهويل بفيتو الرفض. الصائب كذلك ان تأليف حكومة 2019، اكثر منها حكومة 2016، طبعها وجود الرئيس ميشال عون على رأس الدولة.
كان على سلفه الرئيس ميشال سليمان، حينما انتخب توافقياً كأول بنود اتفاق الدوحة، ان لا يفاضل بين قوى 8 و14 آذار. اذا انحاز الى احدهما عادى الآخر، وهو ما حصل مرتين على الاقل: عندما مال الى الرئيس نجيب ميقاتي ضد الرئيس سعد الحريري في استشارات التكليف عام 2011، وعندما قرّر جعل المعادلة الثلاثية - التي يسميها فريق 8 آذار ذهبية - خشبية عام 2013. لا يحكم اذا وازن بين الفريقين، ولا يحكم حتماً اذا فاضل بينهما. لذا لم يحكم ابداً حينذاك. على طرف نقيض منه، رسم عون سياسة مختلفة تماماً: ان يجعل - هو الحليف القوي والصلب لحزب الله - شريكه في الحكم وهو تيار المستقبل نقيض الخيار الاول في لعبة الخلافات الداخلية والصراعات الاقليمية. ليس خافياً ان رئيس الجمهورية الذي شهد انقساماً حاداً حول انتخابه، وصل الى رئاسة الدولة في مركب حزب الله والحريري معاً، وهو ايضاً في السنة الثالثة لولايته يُكمل تعايشاً غير مسبوق في الحكم وخارجه بين هذين الفريقين. لم يعد سلاح حزب الله عقبة في تسيير الحكم، وامكن ايجاد اكثر من طريقة لفك اشتباكهما حيال الموقف من سوريا ونظامها.
الحكومة الجديدة فرضت ما لم تخبره الحكومات المتعاقبة: ان تكون على صورة الانتخابات النيابية


2- ليست تحالفات حكومة 2019 على صورة تحالفات حقبتي اتفاقي الطائف والدوحة. في الحقبة الاولى كانت صنيعة دمشق التي احاطت نفسها بغالبية ووضعت الاقلية المسيحية المعارضة خارج السلطة، وامسكت بآلية اتخاذ القرارات. لا ثنائية ولا ثلاثية، بل رزمة حلفاء في صحن سوري واحد، لا يفرّق بينهم سوى الامتياز عندما يمنحه الى احدهم دون الآخر. وهو امتياز متقلب في كل الاحوال، وجوّال. في الحقبة الثانية، اتاح انقسام البلاد بين قوى 8 و14 آذار إرساء تحالفات ملتبسة داخل الحكومات المتعاقبة بشرّابتي طربوش سنّية وشيعية، لم يكن الفريق المسيحي يسعه الدخول الى السلطة في معزل عن اي منهما، سواء عون حينذاك على رأس تكتله النيابي او حزبي الكتائب والقوات اللبنانية. في حكومة 2019، ما لم يكن في الامكان توقّعه، ان يمسي الفريق المسيحي في السلطة، الذي يمثّله رئيس الجمهورية وحزبه، شريكاً كامل المواصفات للشريكين الآخرين، السنّي والشيعي، اللذين امسكا بتوازن الحكم والشارع، بتفاوت ما بين عامي 2005 و2016. شراكة كهذه حرمته منها الحقبة السورية عندما وضعت الحكم والشارع بين ايدي حلفائها. للشريك المسيحي الآن ليس الفيتو فحسب، بل كذلك صنع السياسات التي اكتفى قبلاً بالتفرّج عليها.
3- لم تُعنَ الحقبة السورية بنتائج الانتخابات النيابية كهدف في ذاته لتأليف الحكومات، وقد أُجريت في ظلها اعوام 1992 و1996 و2000. حسابات هذه غير تلك. توزير الحلفاء هو المطلوب وليس فوزهم، وكان مضموناً في الدورات تلك في كل حال ما دامت البرلمانات المنتخبة والحكومات المعينة تتقاطع عند خيارات دمشق التي تصنعها على التوالي. لذا لم يكن التكليف ابن ساعته، ولا تأليف الحكومات يحتاج الى وقت ضائع وطويل، ولا الحلفاء يتبرّمون من حصصهم او يملكون حق التحفظ حتى. في ظل اتفاق الدوحة لم تكن نتائج الانتخابات النيابية ذات مغزى مرة. حصدت قوى 14 آذار الغالبية النيابية مرتين عامي 2005 و2009، من غير ان تتمكن في المجلس - كما في الحكومة - من انتزاع السلطة كاملة من المعارضة رغم امتلاكها هذا النصاب.
في اربع من الحكومات المتعاقبة (2005 و2008 و2009 و2014) على اثر هذين الاستحقاقين، أُرغمت قوى 14 آذار على حكومات وحدة وطنية، اما الخامسة (2011)، فاختارت عدم الانضمام اليها. مع ذلك ظل التمثيل المسيحي أسير قطبي الغالبية والمعارضة، تيار المستقبل وثنائي حزب الله - «أمل»، ودارت كل التحالفات من حول هذين القطبين. بفضل حزب الله نجح عون في الحصول على 10 وزراء في حكومة ميقاتي، ومن دون تيار المستقبل لم يكن لحزبي الكتائب والقوات اللبنانية التمثل في حكومة، او فرضهما الحقائب التي يريدانها. في حكومة 2005 - وكانت ذروة استئثار قوى 14 آذار - أُعطيت القوات اللبنانية حقيبة «فقيرة» هي السياحة، وفي حكومتي 2008 و2009 أُعطيت حقيبة «مهمة» هي العدل مشروطة بوزير غير حزبي صديق للحزب هو ابراهيم نجار، وفي حكومة 2019 أُعطيت وحدها دون سواها حقيبتا دولة.
على ان الحكومة الجديدة فرضت ما لم تخبره مرة الحكومات المتعاقبة: ان تكون على صورة الانتخابات النيابية، وليس على صورة دمشق كما في حقبتها، او على صورة قوى 8 و14 آذار كما في ظل اتفاق الدوحة. في جانب من تبرير حصول الرئيس وحزبه على الثلث+1 حجم كتلته النيابية، كذلك تبرير عدم استئثار الحريري بالمقاعد السنّية الستة انه لم يعد يمثّل كل السنّة اللبنانيين.