أقفل العام 2018 على «ثورة بيئية». ثورة لم تأت من الشعب ولا من الحركات والجمعيات البيئية. كما لم تأت، بالتأكيد، من وزارة البيئة. بل من مصلحة رسمية (المصلحة الوطنية لنهر الليطاني) بدأت منذ مدة (بعد تعيين مدير جديد لها) بإحالة ملوّثي النهر والمعتدين عليه الى القضاء.وبصرف النظر عن بعض الملاحظات حول شمولية الحملة ومدى عدالتها، وعن سبب اللجوء الى القضاء المالي لا البيئي، فقد كان منتظراً من وزارة البيئة - التي تملك إمكانات وخبرات ودراسات أكثر وأعمق - أن تتولّى القيام بهذه «الثورة» منذ مدة طويلة، لا سيما بعد صدور قانون حماية البيئة الشهير الرقم 444 الصادر منذ 16 عاماً (2002)!
مارس الإعلام البيئي، منذ مطلع التسعينيات، ضغوطاً كبيرة لإقرار هذا القانون، وبعدها لإصدار مراسيمه التنظيمية ومراسيم الأثر البيئي. هذه المراسيم التي أُقرّت متأخرة عشر سنوات (2012) نصّت على أن على المعامل المرخصة أن تحصل على دراسة تدقيق ودراسة التزام وغيرهما من الإجراءات التي لو طبقت، لما وصلنا الى ما نحن فيه الآن من خراب بيئي شامل، لا عودة عنه على الأغلب!
تأخير صدور المراسيم كانت وراءه مصالح كبيرة أقوى من القوى المطالبة بالتشدد في حماية البيئة. وبعد إصدارها برزت الحجة بوجوب مساعدة الملوثين ودعمهم بقروض للالتزام بشروط حماية البيئة، خصوصا أن عمر غالبية المعامل يعود الى ما قبل عام 2000، اي قبل أن تكون هناك منظومة بيئية قانونية ملزمة.
كل هذا قد يكون مقبولاً. ولكن، لماذا لم يحصل الالتزام بالشروط البيئية منذ 6 سنوات بعد إصدار المراسيم؟ ولماذا التراخي الذي أوصلنا الى الخراب التام والشامل؟
قد يتذرّع البعض بتضارب الصلاحيات رغم إصدار المراسيم التنظيمية، وبأن هناك من اعطى تراخيص عشوائية لصناعيين من دون مراعاة الشروط او عن طريق الاحتيال على القوانين. فلماذا لم تتدخل وزارة البيئة من ضمن صلاحياتها؟ ولماذا لم يشتغل وزراؤها المتعاقبون بالملفات البيئية كما انشغلوا بمديرها العام (بإحالته عشرات المرات الى التفتيش)، وكما انشغل هذا الأخير بالموظفين (بالتنكيل بهم أحيانا)؟ ومن تسبب بكل هذا الاستضعاف للوزارة: السلطة السياسية مجتمعة، ام القوى التي تولت هذه الحقيبة حصراً لسنوات، ام كانت المشكلة في الشخصيات الضعيفة التي تم اختيارها لشغلها؟ علماً أن إنشاء حقيبة البيئة، عام 1993، لم يأتِ بناء على وعي رسمي وأهلي بأهمية حماية البيئة، بل لأن دولاً ومنظمات دولية مانحة اشترطت وجود الوزارة لإدارة المنح المالية التي كانت تهتم آنذاك بإنشاء المحميات. ولذلك، ليست مستغربة، اليوم، عودة الاهتمام بهذه الحقيبة، للاسباب المالية نفسها، انما عن طريق الاستدانة هذه المرة!
رغم ذلك كله، يمكن الجزم، الآن، أن عملية اختيار وزير البيئة المقبل حاسمة في تحمل مسؤولية حماية البيئة، خصوصا بعد وجود الإطار القانوني الصالح، واذا عرف كيفية اختيار الاولويات بعد تحديد الاستراتيجيات اللازمة، التي يفترض ايضا أن تحدد العلاقات مع الاطراف المتدخلة او المتداخلة، سلبا او ايجابا، بالقضايا نفسها. في طليعة هذه الأطراف مجلس الانماء والاعمار الذي يعمل منذ إنشائه بعشوائية، لم يأتي وزير بيئة قوي (فكريا) ليضعه عند حدوده في القضايا التي تتعلق بحماية البيئة، أن في ادارة النفايات الصلبة (المفضوحة سوء ادارتها وكوارثها)، او في ادارة النفايات السائلة ومياه الصرف المسكوت عن تقصير خططها المنقوصة في انشاء محطات من دون شبكات، او شبكات من دون محطات، او محطات وشبكات من دون خطة متكاملة لمعالجة الوحول الناجمة عن المحطات...الخ كل ذلك من ضمن استراتيجيات ومواصفات متكاملة، كان على وزارة البيئة وضعها وفرضها على مجلس الانماء والاعمار والوزارات الأخرى المعنية، وفي طليعتها وزارة الطاقة والمياه، المقصرة ايضا في هذا الجانب، لاسيما في حماية مصادر المياه، او في التخطيط العشوائي لانشاء سدود سطحية غير ضرورية، قد تلعب دورا سلبيا إضافيا في زيادة مياه الصرف وزيادة تلويثها للمياه العذبة والتربة والزراعة ومياه الانهر والبحر... وزيادة الكلفة في معالجتها. بالإضافة الى تحديد الأدوار اللامركزية للبلديات واتحاداتها ووزارة الداخلية والبلديات المعنية ايضا بالكثير من القضايا التنظيمية والتطبيقية لحماية البيئة. مع الاشارة الى استراتيجية وزارة البيئة لحماية البيئة التي لم تبصر النور يوما بعد، يفترض ان تشمل كل القطاعات والوزارات تقريبا التي تتقاطع معها في حسن ادارة الموارد وسلامتها واستدامتها، بالاضافة الى مهمة حفظ حقوق الاجيال القادمة ايضا في العيش في بيئة وموارد سليمة.
فمن هي الشخصية التي سيتم اختيارها لتسلم حقيبة البيئة، وعلى اي اساس سيحصل الاختيار هذه المرة، اذا تشكلت حكومة واذا افترضنا ان هناك من يهتم بمثل هذه القضايا الحياتية والوجودية والمصيرية؟ وهل سيتم الاخذ بالاعتبار هذه الجوانب وغيرها الكثير التي نؤجل تناولها لمناسبة اخرى؟ وهل يمكن الادعاء أن «ثورة الليطاني»، التي لم تنتهي فصولها بعد، تفرض أن ياتي وزيرا ثوريا لكل بيئة لبنان هذه المرة؟ وهل سيكون هذا الموضوع-المطلب من ضمن اجندة التحركات الشعبية التي بدأت مؤخرا؟