الآن، يُمكن للمالك أن يَستلم مأجوره. أصبح المنزل شاغراً. أخلاه نزيله، إلى الأبد، تاركاً خلفه رائحة دم طفليه... ودمه. كان تلقّى إنذاراً مِن صاحب المنزل، كما جاء في الخبر الرسمي، بوجوب الإخلاء. لحظة عصيبة، عاصفة، على صاحب عائلة بجيب فارغ. لحظة لن يفهمها، ربّما، إلا مَن عاش معنى أن تُصبح مُهدّداً بالرمي، مع أطفالك، في الشارع. لو أنّ محمد شراب اكتفى بقتل نفسه، دون طفليه، لكانت المصيبة أهون. حصل أن أنجبهما، مع والدة ما زالت على قيد الحياة، فاعتقد أنّهما ملكه، وأنّه يُمكنه أخذ «ممتلكاته» معه في رحيله الأخير. لم تنته التحقيقات بعد. لم يُحسَم أنّه فعلها، لكنّ، بحسب المحققين، هذا هو الراجح. ما الذي يدفع أباً لقتل أطفاله؟ ما الذي يحصل في تلك اللحظات، وما قبلها، داخل جمجمته؟ وحده هو مَن يعلم ذلك، أمّا نحن، الأحياء بعده، فليس أمامنا إلا أن نحاول الفهم. مجازفة أن نُزايد على أبٍ في «حبّ» أطفاله. خفّة أن نُنصّبه كـ«شيطان» ليسهل رجمه، وحده، فتُبرّأ كلّ الأسباب الأخرى. هذه لحظة العقل، ثم تتوارى لمصلحة القلب، فتلوح صورة علي (11 سنة) وتينا (7 سنوات) في فراشهما، بدمائهما، فنغضب فوق المعقول مِن القاتل. أن يَقتل نفسه بعدهما، بالسلاح نفسه، لا يُنجيه مِن ذاك الغضب... أيّاً تكن الأسباب.
لم يعلم الجيران بما حصل إلا بعد أيّام مع انتشار رائحة الجثث في المبنى

كان محمد شراب اقترب مِن إكمال عقده الرابع. كان عمره 37 سنة بالتمام. منفصل عن زوجته، مكانيّاً، إنّما مِن غير طلاق. قيل إنه أصبح أخيراً بلا عمل، بعد تركه وظيفته، فعمل سائق أجرة. العمل الأخير ليس سهلاً، بالمناسبة، إذ يحتاج إلى «نمرة عموميّة». هذه الأخيرة ثمنها ثروة، لا يملكه معوز، فيكون الحلّ بأن يحصل عليها بالايجار. تراكمت عليه الديون في الآونة الأخيرة. أوصله ذلك إلى القضاء. أشياء أخرى لا نعلمها. أشهر قليلة مضت على سكنه الجديد، بالايجار، في منطقة عين الرمانة. مبنى مِن ست طبقات شغل هو الطبقة السادسة منه. اسم مالك المنزل مدوّن على «الانترفون» لا اسم دافع الايجار. فتى صغير، اسمه قاسم من سوريا، يعمل في دكّان قريب يُرشدنا إلى المكان. المنزل، بحسب مَن عاينه، يكاد يخلو مِن «العفش». محمد شراب فلسطيني مِن أم لبنانيّة. في لبنان هذا يعني أنّه ليس لبنانيّاً. أن تكون فلسطينيّاً، في لبنان، فهذا يعني «تراجيديا» معيشيّة مضاعفة. ليلة أمس، إثر شيوع الخبر، كان الصليب أسفل المبنى مضاءً. زينة الأعياد ما زالت تلمع. المنطقة هنا «مسيحيّة» بغالبيّة سكّانها. صاحب «ميني ماركت الحاج» يُخبرنا، مباشرة إثر سؤاله، أنّه لا يُحبّ الجريدة وإنّه «قواتي». نمازحه قليلاً، فيقبل ذلك، فتُصبح ثيابه «الزيتيّة» أقلّ شراسة. يقول: «لا نعرف عنه شيئاً، هو سكن هنا منذ مدة وجيزة، الله أعلم شو القصّة». الكلّ هنا لا يعرفون شيئاً عن محمد شراب. هم لم يعلموا أنّ جريمة حصلت أصلاً، منذ أيّام، رغم صوت إطلاق النار. لولا شكوى الجيران مِن رائحة كريهة لما كُشِف الأمر. كانت تلك رائحة الجثث المتحلّلة. لقد وصلت موجة الموت الصامت إلى بلادنا، بعدما كنّا نقرأ عنها في بلاد بعيدة، إذ لا يُعرَف بموت أحدهم إلا بعد انتشار رائحة جثّته. حصلت حادثة مماثلة في الأشرفية بداية العام الماضي، إنّما بلا جريمة، إذ تبيّن موت أحدهم منذ ثلاثة أشهر على فراشه. المهم، لم يكن أمس مِن مأتم في ذاك الزقاق الضيق في عين الرمانة. لا عزاء هنا. هذا أحد وجوه «غربة» السكن بالايجار، كسكن عابر، بعيداً عن الأهل و«الملّة». هذه «فرادة» لبنانيّة أخرى. عموماً، هذا أحد مظاهر العيش المُدني الحديث. أسلافنا لم يختبروا ذلك.
الطبيب النفسي أحمد عياش، وتعليقاً على الحادثة، كتب لـ«الأخبار» أنّ: «الحدث الجلل رسالة عنيفة اللهجة، بأحرف من دم، ضدّ ماضٍ تعيس وحاضر متعثّر ومضطرب الوعي. عندما تختلط شحنات الحب مع الكراهية، شحنات إرادة الحياة مع الموت في اتجاه هدف واحد، تصبح الجريمة انتحارًا والانتحار جريمة، ليتحولا معاً إلى حالة ثالثة غير معروفة وغير متفق عليها، تتخطى الجنون بمسافات وتتخطى مواد الهلوسة. تتخطى علم الاجتماع والعائلة والاقتصاد». ويضيف عياش، الذي واكب أكثر مِن حالة مشابهة، والذي يتوقّع أن تزيد هذه الحالات في مجتمعاتنا، أنّ «الكرامة المسحوقة والكبرياء المداسة بالأقدام تجعلان من جائع مضطهد، أو مكتئب منبوذ، أن يتمرّد على الله وأن يتحدّاه في قدره، بأن يحتج على خلقه، فيُعيد إليه الأرواح دون منّة... أن يُعلمه في لحظة غضب عام، وفي لحظة عدوانيّة هوجاء، أنّ ليس ما يقهره بالموت إلهيّاً، إنّما عبيده قهروه وعذبوه إلى أن قتلوا أطفاله. قتلوه وهو الميت قبل الممات».