حين كادت مراسيم تأليف الحكومة تصدر لمرتين متتاليتين، كان اعتقاد القوى السياسية المعنية أن كلمة السر أتت من الخارج، وأن الجميع التزم بها. لكن الحكومة لم تتألف، على رغم أن الانطباع السائد أن حزب الله وهو المعني الأول بالتأليف، مستعجل لإنهاء هذه الأزمة وتشكيل الحكومة. في حين أن العهد الذي يفترض هو والتيار الوطني الحر أن يكونا متقدمين على الحزب برغبتهما بتأليف الحكومة، يتريثان ويضعان شروطاً في إطار المفاوضات الجارية.إذا كان السؤال ما هي قدرة التيار ورئيسه على المناورة إلى هذا الحد، ومنع حزب الله من تحقيق رغبته، فإن خصومه يضعون في المرتبة الأولى جواباً واحداً هو رئاسة الجمهورية التي يضعها الوزير جبران باسيل في إطار الشروط السابقة للتأليف، والتي تجعل المفاوضات داخلية بحت. لأن الفرصة الحالية مناسبة للضغط والاستحصال على أفضل العروض التي تؤسس للمستقبل، ما دام الرئيس ميشال عون موجوداً في سدة الرئاسة.
وإذا كان السؤال الثاني ما هي العناصر الخارجية التي تضع الحكومة في مهب الريح، فالجواب متعدد الوجوه ربطاً بجملة تطورات إقليمية تبدأ في سوريا:
ثمة انتظارات كثيرة يراقبها المعنيون بالتأليف. ليست القمة الاقتصادية المنتظرة هي الخط الفاصل بين مرحلتي عامي 2005 و 2019 بكل ما تعنيهما من انفصام سياسي حاد. لأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية هي المحك الذي يراهن عليه خصومها في بيروت، من دون استبعاد أي ارتدادات سلبية على الواقع الداخلي. فهؤلاء تنتابهم مخاوف مشروعة، خصوصاً في ظل المواقف الخليجية الأخيرة. لأن ثمة شعوراً أن ما يرتسم من محاولات انتزاع سوريا من الحضن الإيراني، وهي تجربة سبق أن تمت المراهنة عليها غربياً وعربياً من دون جدوى، ليس واضحاً ومفهوماً بتفاصيله. فالخشية من أن تتم عودة العواصم العربية والخليجية إلى سوريا من دون أن يكون لحلفائها في لبنان خريطة طريق واضحة المعالم ترسم أفق الحل في سوريا ولبنان وكيفية تحديد معالم المرحلة المقبلة، تكبر يوماً بعد آخر. خصوصاً في ظل شح المعلومات التي تصل إليهم، والإحاطة مسبقاً بما يحضر، وبقاء الأسئلة المحلية من دون أجوبة عربية شافية. ما خلا نصائح لا تزال على المستوى الأول بتحسين العلاقات مع روسيا في هذه المرحلة وعدم الاتكال فقط على الدور الأميركي.
خشية خصوم سوريا من تطور «الهجمة» العربية من دون سيناريو عملي تجاه دمشق تتقاطع مع تراجع الدور السعودي لا سيما بعد تفاعل مقتل الصحافي جمال خاشقجي وتأثير ذلك دولياً وإقليمياً، إزاء تصاعد دور تركيا، التي باتت تستفيد من جملة محطات إقليمية لتعزيز دورها، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا ودخولها على خط تطويق الأكراد وتصفية خصومها.
لكن في المقابل يبقى تعويل «الخائفين» كبيراً على تطور الموقف الأميركي تجاه طهران. فالدور الأميركي، في رأيهم، لم ينحسر كما دلت عليه زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، لا بل إن خطابه المتشدد تجاه إيران وتطويقها بالعقوبات والضغط لتقليص دورها في العراق واليمن وسوريا ولبنان، ينظر إليه وكأنه استمرار سياسي للانسحاب العسكري. فواشنطن ترى في سوريا اليوم ساحة استثمار سياسي واقتصادي، بعدما ضاعف انسحابها العسكري من تخفيف الخطر على جنودها. والرهان كبير على انتزاع إيران من سوريا بفعل الضغط العربي وضخ الأموال المطلوبة لإعمارها، لأن لا روسيا ولا إيران قادرتان على ذلك، إضافة إلى أن العقوبات وتطويق إيران من خلال التشدد الاقتصادي الداخلي، عوامل تساهم في تقليص النفوذ حيث تمتد الأيدي الإيرانية. وعلى رغم أن السيناريو قديم بطبيعته، إلا أن الفريق الأميركي الذي يقف وراءه مختلف عن الفريق السابق بشخصياته وبنهجه. علماً أن سياسيين على ارتباط بدول خليجية، يتحدثون عن احتمالات مرتفعة لحرب على إيران. والمعلومات تربط احتمالات التدهور العسكري بالضغط الأميركي الذي تسعى إليه إدارة ترامب لتطويق إيران أكثر فاكثر، وتعزيز نفوذ خصومها في العراق وسوريا. هذا الرهان على الدور الأميركي واستكشاف مدى جديته، معززا بمصالح روسيا في تحقيق توازن مع إيران وتركيا ونسبة تثبيت نظام الرئيس السوري بشار الأسد إليها في الدرجة الأولى ومراعاة مصالح إسرائيل والدول العربية الممولة للإعمار، ونيل حصتها منه، من شأنه أن يشكل عنواناً أساسياً للمرحلة المقبلة، في ساحات التجاذب ومنها لبنان.
ولا يمكن التعامل مع كل ذلك، من دون الأخذ في الاعتبار ما تريده إيران، التي لا يمكن أن تتراجع أمام هذا المد وتقليص نفوذها من دون مواجهة، في العراق أو اليمن أو سوريا ولبنان. ما يعنينا، انعكاس هذا التموضع العربي والضغط الأميركي على الواقع الداخلي. فما يظهر حتى الآن أن سوريا وحلفاءها لا يريدون تدوير الزوايا مع خصومهم، وبدأوا يظهرون أكثر تشدداً في ترجمة «الانتصار السوري» من خلال ارتفاع اللهجة والأداء، بعدما باتوا مرتاحين لتطور مسار الحدث العسكري وسيطرة النظام على مناطق النزاع، ما يرسم في الأفق معالم مواجهة جديدة بين خصوم سوريا من جهة (وإن باتوا قلة في الحكومة) وحلفائها في الحكومة الجديدة. في حين أن موقف حزب الله يبدو أكثر تريثاً، على رغم أنه مستعجل لإنهاء ملف الحكومة، بفعل الضغوط والعقوبات التي تريد واشنطن التشدد فيها. إلى حد أن هناك من يعتبر أن حزب الله الذي يقول إنه سينال في النهاية ما يريده، يفتقد حرية الحركة نفسها التي جعلت من التيار الوطني يقوم بكل هذه المناورات. فالأسباب نفسها التي تجعله مستعجلاً باتت تقيده، من سوريا إلى العراق وإلى اليمن والاحتمالات المفتوحة مع إسرائيل. وخصومه يتحدثون عن سلسلة من المحطات، تجعله على مفترق طرق متشابكة، نتيجة الضغوط التي تواجهه. ولعل هذه التشابكات هي التي تجعل حلفاءه يضغطون عليه مستفيدين من عامل الوقت لتحصيل مكاسب أكثر.