التظاهرة التي نظّمها الحزب الشيوعي في بيروت، أمس، قد لا تلقى اهتمام السلطة السياسية. ليس بسبب الحزب الذي دعا إليها، وليس بسبب حجم المشاركة الشعبية فيها، ولا بسبب نوعية الشعارات التي رفعت، بل لسبب وحيد، هو أنّ السلطة القائمة في لبنان، اليوم، تعكس تمثيلاً شعبياً كبيراً، وكبيراً جداً، وهو ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة. ولو دُعي اللبنانيون اليوم إلى الانتخابات، لما تغير المشهد السياسي بصورة لافتة. والأمر مرتبط، مرة جديدة، بحجم الاستقطاب الطائفي القائم عند غالبية الجمهور. يكفي أن يتذمر فقيران من الجنوب والشمال، ويموت مريضان من الشوف أو كسروان، وتفلس شركتان من البقاع أو بيروت، حتى تعرف أنّ المصاب يخصّ الجميع. لكن، عندما تدعو هؤلاء الفقراء وأهالي ضحايا الإهمال وأصحاب الشركات المتعثرة إلى تنظيم احتجاج مشترك، تكتشف حجم الاستقطاب الطائفي الذي يخلط الأمور ويظهر أولويات من نوع مختلف. فتكون النتيجة، أن الشارع اللبناني ليس جاهزاً لثورة على النظام الطائفي القائم.هل هذا يعني أن على الطامحين إلى التغيير الاستسلام؟
أبداً، لكن على المعنيين بكل حركة إصلاحية أو تغييرية جذرية، أن يقدموا تشخيصاً واقعياً للأزمة، يتم خلال وصف الوقائع كما هي، من دون التوقف عند حسابات أو مراعاة بغرض استرضاء هذه المجموعة أو تلك. وعلى المعنيين أن يبتدعوا أفكاراً للعلاج، تقول صراحة للجمهور إنه مسؤول عن بعض ما أصابه، وإن عليه تحمّل حصته من الثمن، بسبب منحه الثقة للسلطة المتعاقبة على إدارة البلاد باسمه. وعلى المعنيين التصرف بأنّ المواجهة تفترض حواراً ليس من النوع الذي يجري على شاشات التلفزيون الواقعة أصلاً تحت سيطرة الحكام، بل في دوائر قادرة على ابتداع حلول يتطلب تحقيقها تضحيات كبيرة وجدية. وتستدعي اللجوء إلى وسائل احتجاج غير مألوفة، فيها من العنف المنظم ما يمنع تفشي العنف العشوائي الذي تدعمه السلطات عادة في سياق سعيها إلى قمع كل تحرك احتجاجي.
ما يقوم به الحزب الشيوعي يفترض أن يكون من اختصاص منظمات أهلية أو نقابية. لأن ما يجب أن يقوم به الحزب، يجب أن يكون سقفه أعلى بكثير مما نشاهده منه خلال العقدين الماضيين. فالصراعات القائمة في العالم وفي المنطقة وفي بلادنا، تفرض على قوة لها تاريخ كبير في النضال الشعبي، أن تعلن حالة الطوارئ داخلها أولاً، وأن تفسح قيادتها المجال أمام جيل يقدر على تحمّل مسؤولية المواجهة بعدة مختلفة، ومع خطاب يغادر نهائياً المنطقة الرمادية التي يسكنها الحزب الشيوعي اليوم، حيث الموقف لا يتصل بالمبادرة المناسبة. وهي قيادة لا يمكن أن تتكون إلا من مناضلين، لا تسكنهم الحسابات التي يعاني منها جيلنا نحن، جيل المنتسبين إلى قواعد العمل التي تطبّعنا عليها منذ توقف الحرب الأهلية. وهي قيادة تحتاج إلى قطع مع الماضي القريب وإعادة وصل مع الماضي البعيد. قيادة تعرف أن حق الوصول إلى السلطة ليس حكراً على الجهات الطائفية والأحزاب التقليدية، وأن تنظيم الانقلاب الشامل في البلاد، يتطلب خوض معارك داخل الكتل الطائفية المتراصة، وأن يكون موقف هذه القيادة حاسماً في عدم مراعاة أحد، لكن ليس على طريقة «كلن يعني كلن»، لأن الواقعية تفرض على أي قيادة جديدة أن تقرأ الواقع كما هو، لا كما نريده أن يكون، وعندها لا يمكن شمل الجميع بالمسؤولية عمّا يجري. حتى القوى الكبيرة الممتنعة عن خوض معركة الإصلاح الداخلي، كحزب الله مثلاً، لا يمكن التعامل معها، مثل التيار الوطني الحر، الذي سرعان ما اندمج بقوة في لعبة المحاصصة على أسس طائفية. وعلى هذه القيادة أن تخلق الإطار الجاذب لا المنفّر لجموع الشباب المتضرر من الحكم القائم، وهو إطار يتطلب أدوات عمل مختلفة عن القائم حالياً.
التقدير الواجب إظهاره للحزب الشيوعي إزاء ما يقوم به، يوازيه واجب التقدير بأن الحزب، على صورته الحالية، ليس مؤهلاً لقيادة عملية إصلاحية جذرية في البلاد. وهي نتيجة محزنة، لكنها لا تمثل إدانة للحزب وموقفه وقياداته، بل تعكس حقيقة أن المعركة الجديدة في وجه النظام الطائفي، تتطلب أدوات وأفكاراً مختلفة، ومبادرات عملانية مفتوحة، تكون المواجهة الحادة هي الأساس فيها لا الاستثناء. وهو أمر يفرض، حتى من الزاوية الإنسانية، ترك الأمور لجيل جديد، من الذين لا يخجلون من تاريخهم وماضي حزبهم، لكنهم لا يخجلون في الطلب إلى البعض التنحي جانباً، لأنه حان دور الآخرين. كذلك لا يخجلون من القول، صراحة، إن لعبة السياسة في لبنان، لا تحتمل المزاحمة على مقاعد النظام نفسه، بل تستدعي تصور نظام جديد، قائم على مبادئ حقيقية ثابتة. ولو نجح الأعداء في تسميتها باللغة الخشبية، ذلك أن الإصلاح الجدي، يتطلب منع الخارج المعادي من التدخل في لبنان، ما يعني مواجهة على أساس حفظ الموقف الوطني، حيث يفترض أن تكون الخصومة مع الغرب وإسرائيل وأعوانهما من العرب واللبنانيين، خصومة حاسمة لا تحتمل التأويل أو المحاباة. وأن منع الغرب الاستعماري وحلفائه العرب من التدخل في مصير بلادنا، يتطلب عملية مقاومة حقيقية، ولو كان ذلك على حساب بعض ما يراه لبنانيون أنهم امتياز لهذا البلد. وعندما يكون هذا الشعار قابلاً للرفع وليكون ضمن مبادرة، سيكون الأسهل اللجوء إلى مواجهة الجهات الداخلية المرتبطة بهذا المشروع، والتي تسرق البلاد بحماية هذا الخارج اللئيم. وعندها، قد تفرض المواجهة عملية إنهاك لمنظومة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية ودينية باتت تشكل اليوم الأساس المتين للمبنى الذي يحتله النظام.