تبذل إسرائيل جهوداً كبيرة، مباشرة وغير مباشرة، لإفهام لبنان أنها قد تقدم على تنفيذ «حدث أمني»، مهم ومفصلي، من شأنه أن يقود إلى حرب على الجبهة اللبنانية، والشمالية عموماً، إضافة الى سوريا.الجهود المبذولة لافتة للغاية، وتكاد تكون سمة المرحلة إسرائيلياً. فرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو هو الذي يقودها، إلى جانب عدد من وزرائه، ويسهم فيها بشكل فاعل معلّقو مختلف وسائل الإعلام العبرية، مع التشديد على المقاربة التخويفية وكأن الحرب باتت وشيكة جداً.
بالطبع، لا يراد من هذه المقدمة تقدير وضع أو استشراف نتائج ووقائع مقبلة، سواء بالرفض أو بالتبنّي لأي سيناريو أو فرضية، ومن بينها استخدام البعد الأمني في الداخل والصراع على السلطة. لكنه توصيف لحالة إسرائيلية قائمة من اللافت فيها الاستماتة في الدفع نحو إيجاد حالة توتر في لبنان، وفي أساسها إرادة تخويف الطرف الآخر وترهيبه.
في التعليق الإعلامي الإسرائيلي (للمفارقة، معظم المعلقين يماشون قيادتهم، دفعة واحدة، مع شبه استنساخ يكاد يكون حرفياً) تأكيدٌ أن قبول تل أبيب وقف إطلاق النار مع غزة مرتبط بالحدث الأمني الكبير جداً الذي قد تقدم عليه إسرائيل في الجبهة الشمالية، وتحديداً مع لبنان، وكذلك أيضاً حيال تمديد ولاية رئيس الأركان غادي أيزنكوت أسبوعين إضافيين، وهو بطبيعة الحال السبب الذي منع سقوط الحكومة بعد استقالة الوزير أفيغدور ليبرمان وانسحابه من الائتلاف.
من ضمن حملة التخويف استخدام إسرائيل ما قيل إنها هجمات في سوريا، الخميس الماضي، باعتبارها رسالة واضحة للجميع على حزم إسرائيل وجديتها في مواصلة استهداف أعدائها مع القيد الروسي أو من دونه، وتحديداً في لبنان. ومما ورد، يمكن الإشارة كعينة إلى تقرير «يديعوت أحرونوت» عن «الضربات غير المسبوقة في شدّتها واتساعها في سوريا... أما الرسالة من خلالها، فهي إلى لبنان».
بين هلالين، إن كان يستدل على موقف إسرائيل وجديتها تجاه لبنان من «هجمات» الخميس الماضي في سوريا، فهذا يعني «موقف وجدية اللاشيء»، لأنه سيكون مبنياً ومستدلاً عليه من واقع صفر نتائج: في حد أدنى لم تسفر الهجمات عن أي نتيجة، هذا إن كانت هناك هجمات من الأساس، كما تؤكد مصادر إسرائيلية أمس.
في ذلك، تبرز الأسئلة الآتية: إن كانت إسرائيل معنية بالمجازفة وشن اعتداء، مهم ومفصلي، في لبنان، فما الذي يدفعها إلى الدلالة والإشارة إليه مسبقاً؟ وما الذي يدفعها إلى إعلام الطرف الآخر بنياتها العدائية والتنازل عن عامل المفاجأة إن كانت فعلاً في مرحلة التنفيذ الوشيك لهذا «الحدث المهم»؟ وأين ذهبت قاعدة أن إسرائيل تفعل ثم تتحدث، لا تثرثر إن أرادت أن تفعل؟ وماذا عن المجازفة بمواجهة تدرك جيداً تبعاتها ونتائجها عليها، مهما كانت قدرتها على الإيذاء المقابل؟ في الخلفية تكمن ربما الأسباب.
واضح أن إسرائيل في معضلة إزاء ما يمكن فعله للحؤول دون تعاظم أكثر لقدرات أعدائها، بعد ظهور التعقيدات في الساحة السورية التي تقيد مناورتها العسكرية فيها: كل الخيارات النظرية صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وفي الوقت نفسه الإذعان والوقوف بلا حراك أيضاً محفوف بالمخاطر.
في ذلك، تأتي توصيفات إسرائيل للتهديدات وتشكّلها وتناميها تباعاً، مع إبداع تقدير استخباري إزاءها. لكن الإبداع يتقلص حيال الخيارات العملية في مواجهة هذه التهديدات، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بالساحة اللبنانية، على خلفية ردّ فعل حزب الله بعد توجيه الضربات، إن أقدمت فعلاً على ذلك.
في المحصلة، تبدي إسرائيل اهتماماً كلامياً تهديدياً، والتشديد على ضرورة إيصال هذا التهديد إلى الوعي في لبنان مع إرادة التوتير وإثارة القلق فيه. لكن مع تباين بين المعطى والنتيجة المعلن عنها: من يختَر الهجوم لا يوقظ المهاجم ويعزز تموضعه الدفاعي مسبقاً.
الواضح أن إرادة التوتير هي المقصد الإسرائيلي جراء التهويل. وهو استكمال لتهويل سابق، ولمحاولات الدفع لبلبلة داخلية في لبنان على خلفية سلاح حزب الله، وهو تماماً ما كان عليه القصد أخيراً في ادعاءات نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، حول مستودعات ومصانع أسلحة بالقرب من مطار بيروت الدولي، والتي قيل في أعقابها إن الحرب باتت وشيكة.
لكن في الفرضيات المتطرفة يبرز السؤال الذي تريده إسرائيل أن يثار في لبنان: هل تهيّئ تل أبيب الظروف والمسرح الميداني والسياسي لاعتداء وشيك؟ من ناحية عملية، هذا تحديداً ما تريد تل أبيب أن يجري تداوله في لبنان، اعتقاداً منها أنه عنصر ضاغط على المقاومة، خصوصاً إذا جاء السجال اللبناني اللبناني حوله، ربما يصلح مدخلاً دافعاً أيضا للضغوط الخارجية ضد المقاومة وموقفها.
رغم هذا التقدير الذي يأتي من بعيد، إلا أن موقف حزب الله جاء حاسماً، لإدراكه أن الخيار الوحيد والضروري في أعقاب الاعتداء الإسرائيلي، هو الرد. الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قال كلمته ولم يمش. الرد على الاعتداء حتميّ، كما ورد على لسانه، وهذا القرار ينسحب أيضاً على الرد على الرد... وما يليه!