«نحكم بإدانة المدعى عليها مواليد 1983، افريقية (...)». «نطلب تحويل 38 سريلانكية من التابعية البنغلادشية (...)». «تبيّن أن المدعى عليها أقدمت على الفرار من منزل مخدومها (...)». هذه عيّنة من نماذج أحكام قضائية أصدرها قضاة تحت قوس العدالة بحق عاملات في الخدمة المنزلية. ثمة أمران لافتان في هذه الأحكام: أولهما يتعلق بالمصطلحات التي لا يزال القضاء يستخدمها، وثانيهما في نماذج الأحكام المعدّة سلفاً بالوقائع وحكم الإدانة، والتي لا ينقصها سوى تاريخ الإدعاء! «اللي بعدو». ينادي العسكري على صاحب القضية التالي للمثول أمام القاضي. تدخل «اللي بعدو». صبية سمراء بتفاصيل منهكة. وحدها، تقف خلف القضبان القريبة من قوس العدل. يناديها القاضي باسمها، فتومئ برأسها إيجاباً. يسألها «بدّك مترجم؟». تجيبه بسؤال هي الأخرى «شو؟»، فيقول «خلص بتحكي عربي!». يبدأ استجوابها على أساس استنتاجه الأخير. يمطرها بالأسئلة التي، في جلّها، تتمحور حول حياتها الشخصية. في نصف ساعةٍ، ينتهي كل شيء، ثم يأتي الحكم الذي سيصدر «باسم الشعب اللبناني» والذي يخلص إلى «الحكم بإدانة المدعى عليها مواليد 1983/ افريقية سنداً للمادة 36 أجانب (…) وسجنها لمدة شهر وتغريمها مبلغ ستماية ألف ليرة لبنانية (...)».
هذه ليست قصة عاملة يصدر قرار بسجنها وتغريمها مبلغاً يعادل ثلاثة أضعاف راتبها الذي تتقاضاه من عملها. ففي كل يوم، تحت قوس العدل، يحدث الكثير مثلها. تدان عاملات كثيرات بتهم «إكزوتيك» على شاكلة «الفرار من منزل مخدومها» أو «الإقدام على السرقة» أو «الإقامة بصورة غير مشروعة». اللافت أن القضاء، هنا، «تطوّر» إلى حد تخصيص نماذج مطبوعة سلفاً تصدر «باسم الشعب اللبناني»، تتضمن التهمة الجاهزة. وما على القاضي إلا أن يملأ الفراغات على طريقة الكلمات المتقاطعة، ويمهر الحكم بتوقيعه! إلا أنه حتى هذه الفراغات لا تُملأ كلها. ففي القصة أعلاه، ظلّت الشابة، في الحكم النهائي، بلا اسم. بقيت خانة الإسم فارغة، واستعاض عنها القاضي برقم القضية. كأنها نكرة. بعدها، أكمل عمله، كما أملاه عليه ضميره المهني، فملأ خانة الجنسية بـ….«إفريقية»!
النماذج المسبقة التي يستعين بها القضاة هي نماذج أحكام مكتوبة سلفاً بالوقائع والمواد القانونية التي جرى الاستناد إليها للحكم النهائي حتى قبل استجواب «المدّعى عليها». فيما تغيب عنها المعلومات البديهية كالاسم والجنسية. ففي غالبية الأحكام يغيب اسم «المتهمة» ويستعاض عنه بتاريخ ميلادها ورقم القضية. أما الجنسية فهي في غالبية الأحكام التي اطّلعنا عليها «إفريقية»! إذ أن «كل عامل أسود إفريقي، وأياً تكن جنسية العاملة في الخدمة المنزلية فهي إفريقية في ميزان القضاء»، يقول أحد المحامين المتابعين لقضايا العمال الأجانب... تماماً كما هي «سريلانكية»، في لاوعي «المدام»، حتى لو كانت بنغالية مثلاً.
نموذج حكم مسبق | أنقر على الصورة لتكبيرها

هنا، يبدو بعض (وليس كل) القضاة جزءاً من المنظومة الأكبر التي تصرّ على التعاطي مع العاملات في الخدمة المنزلية على أنهن «خادمات» و«صانعات». يستعين أحد القضاة بخلاصة حكمين قضائيين «في الأول، يقرر أحد القضاة رفض قبول دعوى أحدهم على عاملة منزلية بتهمة السرقة، سائلاً إياه: بضميرك هيي سرقت؟ وحكم آخر يصادق فيه القاضي على جرم السرقة الذي غالباً ما يجري دسّه في المحضر لتحرير ذمة صاحب العمل». الفارق بين الحكمين يفسّر تماماً الفارق بين قاضٍ وآخر. وهذا ليس أمراً خارجاً عن المألوف، إذ يتصرف هؤلاء على طريقة أنهم «من هالمجتمع»، تقول المحامية موهانا إسحاق. ففي الوقت الذي يصدر البعض منهم قرارات منصفة، يتصرف آخرون على قاعدة أن العاملة في الخدمة المنزلية عندما تترك المنزل فهي «تفرّ من منزل مخدومها» كما لو أنها فارّة من الجندية أو من السجن، علماً أن لا نصّ في القانون يتحدّث عن فرار من العمل! وهذا يدل على «قوة الأفكار المسبقة، وعلى النظرة الدونية تجاه هذه الفئة»، على ما تقول إسحاق.
عندما احتجّ المحامي قاسم كريم لدى أحد القضاة ضد نماذج الأحكام المطبوعة سلفاً وما تحمله من تعابير عنصرية كـ«خادمة» و«الفرار من منزل مخدومها» و«سريلانكية من التابعية البنغلادشية»... جاءه جواب «الريّس» بأن الأمر سببه «ضغط العمل». فعندما يحمل القاضي ثلاث مهام «عجلة وتنفيذ وجزاء، ما بقدر لحّق إذا لم يكن هناك نموذج مسبق»! ما يحصل ليس عابراً. يحصل هذا في سلك القضاء الذي يفترض أن يكون أعلى «رتبة» في الدفاع عن حقوق «مجموعات معينة» في المجتمع، والسبّاق في التدرّب على الـ«بوليتيكال كوركتنس»، أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بـ«اللياقة» وتجنب الإساءة لأفراد معينين في المجتمع لغةً أو سلوكاً... ولكن يبدو أن دون ذلك مساراَ طويلاً لتغيير اللاوعي المسكون بالفصل والعنصرية.

القضاة ليسوا وحدهم
ثمة ضالعون آخرون في مسار اللاعدالة الذي يترجم تهماً مطبوعة سلفاً، ومنها ما يحصل داخل مخافر قوى الأمن الداخلي. يبدأ الأمر ببلاغ من «رب العمل» عن «فرار العاملة» تمهيداً لإسقاط كفالتها، ولأن لا قانون يبيح ملاحقة العاملة لمجرّد أنها تركت البيت، لا بدّ من «إيجاد» جرم كي يستطيع «الكفيل» تسجيل شكواه. سرعان ما تأتي «التعليمة» من عنصر الأمن: «ليك... ادّعي عليها بالسرقة ولو كانت 50 دولاراً». ستعجب الفكرة «رب العمل» وسيدّعي بالسرقة على الفتاة التي تركت منزله لأنها لم تتقاض، منذ عام ونصف عام، راتب الـ150 دولاراً مقابل 30 يوماً من التعب، أو 5 دولارات عن يوم عمل أكثر من كامل، من «الفجر إلى النجر».
هكذا، تتهم العاملة بالسرقة، لا لشيء إلا لأنه علينا إيجاد جرم كي يتحرّر «رب العمل» منها. كي يبرئ «ذمته» التي لا يزال عالقاً عليها تعبها. لم يكترث العسكري للجرم الذي ارتكبه صاحب العمل، وذهب أبعد للبحث عن تهمة يسجّلها في المحضر. هو يفعل ذلك، لأن هذا ما يفرضه «السيستم».


«معاملة خادمة»!


أصدرت وزارة العمل قبل سنوات تعميماً حذّرت فيه مكاتب استقدام العاملات المنزليات من مغبّة استخدام عبارة «خادمة»، وطلبت استبدالها بعبارة «عاملة في الخدمة المنزلية». التعميم، في ذلك الوقت، فتح كوّة أمل، فإنصاف هذه الفئة من العمال، ولو بعبارة، هو «إنجاز» ، وإن أتى متأخراً. لكن، على ما يبدو، هذا الإنجاز لم يترجم داخل حرم الوزارة. فهناك، في المكان الذي تقصده لتسوية إقامة عاملة في الخدمة المنزلية، ستجد في آخر الطلب ملاحظة مكتوب عليها «معاملة خادمة». هذه ليست مفاجأة. هذا دأب، ونهج يومي تقوم به مصلحة القوى العاملة داخل الوزارة عشرات المرات يومياً!


خلاف على «الملكية»!

في الشكاوى التي اطّلعت عليها «الأخبار» إدعى أحدهم ضد حفيدته لأنها أخذت «العاملة لديه من المنزل بسبب خلاف على أحد العقارات ورفضت إعادتها له». يروي الجد بأن ما فعلته الحفيدة مسّه كثيراً لأنه «كبير في السن ويحتاج إلى من يساعده وهي حرمته هذه المساعدة». لذلك، تقدم باستحضار أمام قاضي الأمور المستعجلة، بوكالة أحد المحامين، يطلب بموجبه «استرداد حيازة» العاملة التي كان يسدّد لها رواتبها! هكذا باتت العاملة واحدة من عناصر الخلاف على الملكية بين الجد وحفيدته، على اعتبار أنها تصبح ملكاً لمن يدفع لها راتبها، وأنها سلعة تستردّ ويستحوذ عليها، طالما أن أحداً يعطيها مالاً في المقابل!