كثرت في الفترة الأخيرة استدعاءات الأجهزة الأمنية لناشطين وناشطات بسبب تعبيرهم عن رأي سياسي على وسائل التواصل الاجتماعي. وكأي قضية خلافية، صدرت آراء وتحليلات كثيرة عن الموضوع أغلبها ذو طابع سياسي أو قانوني. لتعميق النقاش، يقتضي إثارة العنصر الحقوقي ايضاً والذي يتمثل بالضرر التي تحدثه هذه الممارسات على الحريات الفردية.لا غنى عن التأكيد أن ممارسة الحريات الفردية، ومن ضمنها حرية التعبير، لا تجيز استباحة كرامات الناس. لذا محاولة بعض أهل السلطة تبرير الاستدعاءات باللعب على هذا الوتر ليست الا لذرّ الرماد في العيون. يكمن لبّ المشكلة في إيجاد أفضل الطرق للحفاظ على كرامة الآخر من دون المس بالحريات، وهذا ما فشلت السلطات المتعاقبة على لبنان منذ 1990 في إيجاده.
تضمن القوانين لأي شخص (مسؤول سياسي أو مواطن عادي) يشعر بأن رأياً سياسياً معيناً قد تعرض لكرامته حق التقاضي (اللجوء إلى القضاء)، وهذا حق ثابت وليس موضع تشكيك أو جدل. لكن الإشكالية تكمن في التوقيفات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ومدى تأثيرها على المحاكمة العادلة التي هي وحدها كفيلة بإحقاق الحق وإصدار الحكم، في ما لو كان الرأي السياسي المعبّر عنه مهيناً لكرامة الآخرين أم لا.
ولجوء الأجهزة الأمنية إلى استدعاء المواطنين واستجوابهم وإجبارهم على توقيع تعهد بعدم التعرض لشخصية معينة يشكل بحدّ ذاته نقضاً لمبادئ التقاضي، ولعمل القضاء المولج وحده النظر في قضايا القدح والذم، بما فيها تلك الحاصلة على مواقع التواصل الإجتماعي، ومعاقبة من يعتدي على كرامة الآخرين بالإعتماد على الآليات القانونية دون سواها، وليس بناءً على ممارسات استنسابية ذات طابع أمني.
ولحصرية المحاكم في النظر بقضايا القدح والذم أسباب موجبة، أبسطها أن الأجهزة الأمنية لا تملك الأدوات والإختصاص والصلاحية اللازمة لإصدار الأحكام في ما إذا كان رأي ما على مواقع التواصل الإجتماعي مهيناً لكرامة الآخر أم لا. فالضابطة العدلية لا يمكن أن تصدر أحكاماً قضائية، بل تعمل تحت سلطة القضاء ضمن الصلاحيات الممنوحة بالنصوص القانونية.
لكن المسألة تتعدى مجال القوانين والصلاحيات الى بعد اكثر خطورة، ألا وهو تأثير هذه الممارسات على الحريات في لبنان. وهنا يبرز سؤال موجه الى الذين يروّجون لفكرة أن الاعتراض على هذه الممارسات انما هو هجوم على رئيس الجمهورية و«العهد»: ماذا يربح العهد وسيده من التطبّع مع ممارسات تنتهي بتقييد الحريات وقمع التعبير؟ فهل معاقبة من أهان الآخر بأدوات بوليسية واستبعاد القضاء وتحجيم دوره يحافظان على كرامة الناس وقوة العهد؟ وهل تعزيز الرقابة الذاتية والسماح بالترهيب الفكري وتخوين الإختلاف والآراء المغايرة وتدجين النخب الفكرية تّعزز من قدرة المجتمع والناس على معالجة المشاكل والمعضلات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية؟ أم ان العهد يربح من استخلاص العبر من العهد الشهابي الذي بنى رصيداً سياسياً من خلال انشاء مؤسسات حكومية كان لبنان في أمّس الحاجة لها، ولكنه بدّد هذا الرصيد نتيجة تصرفات المكتب الثاني؟
تكمن المصلحة العامة، ومصلحة فخامة الرئيس والعهد تحديداً، في تعزيز سلطة القانون وحصر ملاحقة قضايا القدح والذم وكافة قضايا الرأي بالقضاء وحده عبر محاكمات عادلة تتوافق مع المعايير الدولية ومع التزامات لبنان، وانسجاماً مع دوره الريادي في صياغة الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
وفي السياق نفسه نسأل مناصري العهد عن تبريراتهم للتصرفات القمعية بأنها محكومة بالقوانين المرعية الإجراء: لماذا لا يطبقون المعيار نفسه على حقبة 1990 ــــ 2005 حين كان فخامة الرئيس وأنصاره وغيرهم من الناشطين والناشطات مستهدفين بالممارسات نفسها؟ كيف يمكن لمن ناضل طيلة 15سنة ليتحرر لبنان من الوصاية القبول بهكذا منطق؟ ولماذا تشكل الممارسات من إستدعاء والزام بالتوقيع على تعهد واستعمال المادة القانونية عينها قمعاً مداناً قبل 2005، فيما تصبح حفاظا على الكرامة بعد 2016؟ فهل أصبحت القيم استنسابية تتغير بحسب الأهواء السياسية والمصالح والمناصب؟ وماذا يبقى لنا إذا أدخلنا قيمة كرامة الإنسان في بازارات السياسة وزواريبها؟
* استاذ محاضر في مادة حقوق الانسان