حين تصبح المواعيد سيفاً مُصلتاً على رؤوس العاملين على تأليف الحكومة، يصبح كل تحرك محلي، وكل تطور إقليمي، تحت المجهر.هكذا يجري التعامل مع استحقاق 31 تشرين الأول، على قاعدة التجاذب الحاصل، وتبادل الاتهامات بين مَن يريد تأليف الحكومة قبل بدء السنة الثالثة من عهد الرئيس ميشال عون، ومَن يرغب في أن تبدأ السنة الثالثة من دون حكومة.
من الطبيعي أن تتركز الأنظار على هذا الموعد، لأن كل الإنجازات التي يتحدث عنها العهد يمكن أن تتضاءل أهميتها، حين تتحول حكومة تصريف الأعمال الحقيقة الأكثر حضوراً في السنة الثالثة للعهد. خصوصاً أن معارضيه لا ينسبون إليه وحده هذه الإنجازات، كقانون الانتخاب وإجراء الانتخابات النيابية، لأن كليهما لم يحصلا إلا بفعل اتفاق داخلي جامع وضغط خارجي.
تشكل السنة الثالثة مفصلاً حقيقياً، كانت كل العهود تصبّ جهدها فيه، فتحوله معبراً وممراً إلزامياً للنصف الثاني من الولاية الرئاسية. صحيح أن ثمة تحولات جرت في عهود التمديد، فلم تعد الإنجازات هي التي يُعتَدّ بها، لكن رئيس الجمهورية الحالي بنى مسيرته ما قبل الرئاسة وبعدها على سلوكيات مختلفة عن العهود الماضية. كذلك إن أداء فريقه السياسي يصبّ في خانة تعزيز الولاية الرئاسية وما بعدها. وإذا كانت أصوات معترضيه تعلو لأن ثمة جنوحاً في مساره، فلأن ما تحقق حتى الآن، ومشاورات تأليف الحكومة، إثبات على ذلك، وباتت تشبه سلوكيات سبق أن شهدها لبنان. فالعهد الحالي يحتاج حكماً إلى جرعة ودفع لتجديد وجهه وحضوره، وإعادة استقطاب ما خسره في الشهور الماضية بفعل المراوحة الحكومية. لأن الواقعية تقتضي القول إن ما يحصل لا يمتّ بصلة إلى الالتفاف حول عون عند انتخابه.
من هنا فإن كل يوم يمرّ على العهد من دون حكومة، لا يمكن تحويله انتصاراً كما يصرّ فريق عون على تصويره. لأن لا المؤتمرات الدولية، ولا الجولات الخارجية، ولا الخطب العدائية، هي التي تبني صورة العهد، وتؤسس لمساره المستقبلي. من هنا، يفترض أن يكون العهد الأكثر حرصاً على تشكيل الحكومة، بصرف النظر عن الأحجام والأدوار الموزعة. فرئيس الجمهورية يتحدث ويتصرف على قاعدة أنه أعاد العمل بأعراف قديمة وبأنه يستعيد صلاحيات الرئيس بالممارسة، وأنه يمسك الجيش والأمن، وهذا يعني أن وزيراً للدفاع من حصته لا يقدم ولا يؤخر في مسار العهد، وأن إصراره على وزارة ما، ولو تعرقلت الحكومة، يعيد التذكير بأدائه قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية. ويعني أيضاً أن رئيس الجمهورية المصر على حصص وفق توزيع طائفي ومذهبي معين، لا يزال يتصرف وكأن الهدف من الحكومة استقطاب الشارع المسيحي - الماروني وحسب، وتعزيز حالة التيار الوطني فيه، لا استكمال الولاية الرئاسية بأحسن مما بدأت به. والمشكلة أن رئيس الجمهورية حصر نفسه في دائرة ضيقة، فتارة يريد توجيه رسالة إلى مجلس النواب، وتارة يفعّل الاجتماعات في القصر الجمهوري مع أقطاب الكتل السياسية، ليعود ويرمي كرة التأليف في ملعب التيار الوطني الحر وحده، وتتحول الرئاسة مجدداً كما في العهود السابقة إلى مجرد فريق سياسي يطالب بحصص ووزارات.
ما يجري في مشاورات التأليف يوحي وكأن الرئيسين هما آخر شخصين يريدان تأليف الحكومة


وإذا كان عون يريد بدء سنته الثالثة مع حكومة فاعلة، فلا يمكن أيضاً القفز فوق ما يريده الرئيس المكلف، لأن تسوية 31 تشرين الأول هي تسوية الاثنين معاً. وإذا كانت التطورات الإقليمية من العراق إلى السعودية ترخي بظلها على الأطراف المكلفة إدارة المشاورات الحكومية، إلا أن الحريري معني فحسب بما تريده السعودية، وبدورها المؤثر في مسار التشكيل. ورغم انشغال الرياض بترتيب أوضاعها بعد قضية الصحافي جمال خاشقجي، إلا أن الحريري لا يمكنه أن يكرر تجربة القفز فوق مصالحها. ومن يعرفه، يثق بأنه لا يمكن أن «يتهور» هذه المرة بالذهاب بعيداً في خياراته الحكومية، (كما لم يغامر بالبقاء في السرايا الحكومية كما فعل أسلافه). وإن كان قد بات من الصعب التنبؤ بخطواته، على الأقل محلياً، وتجربته مع القوات اللبنانية ومع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، في السنوات الأخيرة، خير دليل.
فالحريري اليوم لا يضع نصب عينيه سوى البقاء رئيساً للحكومة، ورغم استفادته حالياً من واقع أنه رئيس حكومة تصريف أعمال ورئيس مكلف، إلا أنه هو الأخير يحتاج إلى جرعة دعم، وتحديداً على الصعيد الاقتصادي والمالي. وهذا لا يمكن أن يتحقق في ظل حكومة تصريف أعمال لا تستطيع تنفيذ التعهدات التي جرت في المؤتمرات الدولية.
ولأن الحكومة يفترض أن تكون أولوية الأوليات، (بصرف النظر عن المصالح الضيقة وتوزير المقربين) تتقاطع مصلحة الرئيسين في تشكيلها بسرعة، وكلاهما معني بتسوية جاءت بهما معاً إلى بعبدا والسرايا الحكومية. لكن ما يجري في مشاورات التأليف يوحي وكأنهما آخر شخصين يريدان تأليف الحكومة.