شكّل تدهور أحوال سندات اليوروبوندز (اللبنانية) المتداولة في الأسواق الدولية محور حديث وسائل إعلام أجنبية متخصصّة بالشؤون الاقتصادية. خلال بضعة أسابيع ظهرت خمسة تقارير من «ايكونومست» إلى «فايننشال تايمز»، «بلومبرغ» و«رويترز». مضامين التقارير عزّزت مخاوف سائدة بين اللبنانيين عن قرب حدوث أزمة مالية بدأت معالمها بالظهور بعد تخلّي المستثمرين عن سندات اليوروبوندز ما يثير القلق من أن يدخل لبنان في دوامة التخلّف عن سداد الديون، على رغم أنه لم يفعلها يوماً. تركيز الصحافة الأجنبية على الوضع المالي والاقتصادي في لبنان في هذا الوقت يثير القلق أيضاً. فما الذي وضع لبنان ضمن أولوياتها، على رغم أن الأزمة ليست مستجدّة وبوادرها ظهرت قبل سنتين، على الأقل، مع لجوء مصرف لبنان إلى هندسات مالية غير تقليدية وغير محبّذة لتمويل الديون واستقطاب الدولارات من الخارج؟ أما أزمة سندات اليوروبوندز فقد اندلعت بعيد احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية في تشرين الثاني 2017. مذّاك، تظهر عوارض الأزمة على هذه السندات كل بضعة أسابيع: انخفاض في السعر وارتفاع في العائد. هل بلغت هذه الأزمة حدّ الانفجار؟ أم أن التقارير الأجنبية تتماهى مع الضغوط الدولية على لبنان؟
تقارير مالية أم سياسية؟
باكورة التقارير بدأت مع «إيكونومست» (وهي الوحيدة من بين المؤسسات الإعلامية الأجنبية الأخرى التي لم تعتد الحديث عن الوضع الاقتصادي اللبناني، إلا في حالات نادرة ومحددة)، بعنوان «أزمة تلوح في الأفق». يومها حذرت المجلة من أن السياسات النقدية المُتبعة «غير قابلة للاستدامة»، مشيرة إلى أن «أي انهيار في قيمة سعر صرف (الليرة) سيكون مؤلماً» فيما لا يزال «أصحاب القرار يغضون الطرف عنها».
ونشرت «فايننشال تايمز» تقريراً عنوانه «سوق التأمين على السندات اللبنانية ينذر بأزمة نقدية تلوح في أفق لبنان». استندت الصحيفة على مجموعة مؤشرات من أبرزها ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج ليبلغ 150% وهو من أعلى المعدلات في العالم. كذلك أوضحت أن ارتفاع معدلات الفوائد العالمية يؤدي إلى تورّم كلفة الاستدانة من الخارج.
«فايننشال تايمز» لم تكتفِ بتقرير وحيد، بل نشرت أيضاً تقريراً موسعاً في 3 تشرين الأول بعنوان «ارتفاع العائد على السندات اللبنانية يثير الخوف من امتناع الحكومة عن تسديد ديونها». تحدثّت عن كلفة خدمة الدين العام الذي سيمتص أكثر من 44% من إيرادات الخزينة في السنة الجارية. وتقرّ المجلة بأنه لا معلومات جديدة كثيرة عن لبنان، لا سيما أن أوضاعه المالية تتخطى المنطق فيما لم يتخلف لبنان عن سداد ديونه أبداً». لكن المجلة تتبنّى رأي مسؤول الأسواق الناشئة في «كابيتال إيكونومكس» جايسن توفاي الذي ربط أوضاع سندات اليوروبوندز في السوق الدولية بما يحصل بين إيران وأميركا والدور الخليجي، مشيراً إلى انه «بات واضحاً أن هناك خطراً من أنه كلما زادت وتيرة العقوبات على إيران ارتفعت احتمالات التوتير الإيراني في المنطقة. التجارب السابقة تشي بأن لبنان قد يكون من بين الأماكن التي تقع ضمن هذا المرمى». ويضيف توفاي: «إذا أعلنت دول الخليج طرد اللبنانيين من أراضيها، فإن هذا الأمر سيضرب تحويلات المغتربين. أي أزمة جديدة ستؤدي إلى تخلف لبنان عن سداد ديونه بالعملات الأجنبية».
في السياق نفسه اعتمدت «رويترز» على رواية مشابهة جايمس تورفي التقنية. الرجل استنتج بأن «استمرار خروج رأس المال قد يجفف سريعاً الاحتياطات الأجنبية ويجبر السلطات في نهاية المطاف على خفض قيمة الليرة». عنوان «رويترز» يشي بأن الأزمة مقبلة أيضاً: «تراجع سندات لبنان يعزز مخاوف في شأن العملة وضغوط لتنفيذ إصلاحات مالية».
تقرير «بلومبرغ» جاء بعنوان «الدين اللبناني على مسار غير مستدام: البنك الدولي يخفض توقعاته»، لا يختلف كثيراً في المضمون لجهة سوق سندات اليوروبوندز وسواها من المؤشرات، لكنه يشير أيضاً إلى صعوبة تأليف الحكومة وتغيير البنك الدولي توقعاته عن نمو لبنان الاقتصادي من 2% إلى أقل من 1% وجاء بعنوان «الدين اللبناني على مسار غير مستقر».

الأجانب باعوا واشتروا
لا شكّ بأن غالبية المعطيات الواردة في تقارير الصحافة الأجنبية كان صحيحاً، إلا أن المشكلة تكمن في كون الجزء الكبير من هذه المعلومات قديماً أو غير مستجد بالمعنى الخبري. مسار الأزمة في لبنان لم يبدأ مع تدهور أسعار سندات اليوروبوندز، لا بل إن هذا التدهور ليس مؤشراً أبداً على قدرة الحكومة على السداد. في الواقع، إن تخلّي المستثمرين الأجانب عن سندات اليوروبوندز شكّل ظاهرة لافتة في الفترة الأخيرة، خصوصاً أن التراجع أصاب السندات ذات الأجل القريب، أي تلك التي تستحق بين 2018 و2024.
الأمر محيّر قليلاً، فعندما تصاب هذه السندات بأزمة، يرتفع العائد عليها، وتنخفض أسعارها وترتفع كلفة التأمين عليها أيضاً، لأن المستثمرين يرون فيها مخاطر كبيرة فيبدأون بالتخلّي عنها وبيعها بخسارة على الاحتفاظ بها. هذا بالفعل ما حصل أخيراً، إلا أن المفاجأة جاءت في هوية الذين اشتروا السندات إذ تبيّن أن غالبيتهم أجانب. فهل انقسم المستثمرون الأجانب بين من يرى في سندات اليوروبوندز اللبنانية فرصة لتحقيق أرباح إضافية، وبين من يرى أنها عبء ثقيل يجب التخلّي عنه سريعاً؟ صحيح أن هناك مشكلة في لبنان، لكن سندات اليوروبوندز هي الحلقة الأضعف في هذه المشكلة التي تظهر بوضوح في تراكم عجز ميزان المدفوعات ليبلغ 13.3 مليار دولار حتى تموز 2018، وفي النموّ الضعيف لقاعدة الودائع في القطاع المصرفي بنسب أقل من معدلات نموّ الفوائد ما يشير إلى ضعف قدرة النظام على استقطاب الدولارات من الخارج...
«فايننشال تايمز» و«رويترز» تبنّتا رأي جايسن توفاي السياسي والتقني للاستنتاج باحتمال تخلف لبنان عن سداد ديونه


عند هذا الحد تبدأ الشكوك بالظهور إلى العلن. أوساط رسمية تتهم سعوديين بالوقوف وراء هجمات تهدف إلى دفع المستثمرين للتخلي عن السندات وبيعها بأسعار زهيدة. فمن المعروف للعاملين في الأسواق المالية، أن سوق السندات اللبنانية المتداولة في الخارج (يوروبوندز) سوق سطحية تتأثّر بحجم صغير من العمليات وذلك لأسباب تتعلق بكمية السندات المطروحة للتداول والتي تعد قليلة نسبياً ومحدودية الطلب والعرض عليها إلا في أوقات معينة... وفي هذه الأحوال يمكن أي جهة أن تشتري هذه السندات عبر وسيط مالي قد يكون صندوقاً استثمارياً أو مؤسسات مالية من دون أن تنكشف هويتها، وبالتالي يمكنها أيضاً أن تعرض للبيع هذه السندات بالتوقيت الذي تراه مناسباً ويمكنها أن تعرض بيع هذه السندات من خلال الرهان على أسعارها أيضاً. هشاشة سوق السندات اللبنانية في الخارج تجعله عرضة لتقلبات غير واضحة، لكن لها محاسنها أيضاً. فخلال الأزمات التي حصلت في الفترة الماضية، تمكّن مصرف لبنان وبعض المصارف من شراء كمية من السندات بسعر رخيص نسبياً، وهو ما خفّف كثيراً من حصّة الأجانب لتنخفض إلى 5 مليارات دولار بحسب مصادر في مصرف لبنان، لا بل تكبّد الذين راهنوا على بيع هذه السندات بأسعار متدنية، خسائر كبيرة.