في ما يأتي نموذج عن كيفية ادارة الدولة ووزاراتها للمؤسسات الحكومية وكيفية تحكم السياسة والطائفية بحياة آلاف المواطنين:عقب انتهاء عدوان تموز 2006 وبدء مرحلة اعادة الاعمار، تبرعت دولة الامارات بـ10 ملايين دولار لبناء مستشفى في شبعا وتجهيزه وتشغيله. أول غيث العثرات أمام المستشفى ــــ الحلم لكثيرين من أبناء منطقة العرقوب، كان في اختيار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ــــ لأسباب طائفية ومصالح سياسية ضيقة ــــ موقع المستشفى فوق تلة، يتعذر على أهالي القرى المجاورة بلوغها في موسم الثلوج. ورغم الانتهاء من بناء المشروع عام 2009، بقيت أبواب المستشفى موصدة رغم رصد الدولة المانحة، الامارات، مليون دولار سنوياً لتشغيله لمدة خمس سنوات، ما لبثت أن مُدّدت الى 10 سنوات.
بتاريخ 5/1/2012، صدر مرسوم يحمل الرقم 7398 (حصلت «الأخبار» على نسخة منه) يقضي باضافة «مستشفى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان» في بلدة شبعا الى ملاك وزارة الصحة وإنشاء مؤسسة عامة لادارته، على أن يتعاقد مجلس الادارة مع دولة الامارات لتمويل المستشفى وتشغيله. غير أن وزير الصحة، آنذاك، علي حسن خليل لم ينجح في فتح المستشفى بسبب «عدم تفاهمه مع الجهة المانحة»، بحسب زميل خليل في كتلة «التنمية والتحرير» نائب المنطقة قاسم هاشم.
بعد تولّي وزير الصحة وائل بو فاعور الوزارة خلفاً لخليل، عقد اتفاقاً مع دولة الامارات ممثلة بسفيرها في لبنان في مخالفة للقوانين اللبنانية والأنظمة الراعية للمستشفيات الحكومية، فضلا عن عدم جواز توقيع وزير اتفاقاً نيابة عن الدولة أو مجلس الوزراء. تضمّن الاتفاق تشكيل لجنة عليا للاشراف على المستشفى تضم وزير الصحة وسفير الامارات والمدير العام لمؤسسة الشيخ خليفة للخدمات الاجتماعية لتحل مكان مجلس الادارة، وتسليم المستشفى الى دولة الامارات لتمويله وتشغيله لمدة 10 سنوات، خلافا لقرار مجلس الوزراء رقم 49 بتاريخ 5/1/2012 الذي أكدّ على ضرورة «انشاء مؤسسة عامة» لادارة المستشفى. وفي موازاة ذلك، ومن دون المرور أيضاً بأي جهة لبنانية رسمية، وُقعت اتفاقية ثانية بين السفير الاماراتي وجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية، تعهدت الامارات بموجبها دفع مليون دولار سنويا لـ«المقاصد» لإدارة المستشفى لمدة عشر سنوات، وهي الإدارة التي باءت بالفشل بعدما علت صرخة الموظفين أخيراً نتيجة عدم تقاضي رواتبهم. هكذا، لزّمت الامارات الى مؤسسة خاصة إدارة مؤسسة حكومية من دون أن يسأل أحد من الدولة اللبنانية عن هذه الفضيحة، ومن دون أن يتكبّد وزير الصحة غسان حاصباني عناء المطالبة باستعادة هذا المستشفى الحكومي الى ملاك وزارته.

«خليفة بن زايد» بلا جدوى
مستشفى خليفة بن زايد لم يفتح فعلياً يوماً. تجربة الافتتاح عام 2015 انتهت قبل أن تبدأ لأسباب عدة، أولها تعيين أحد أعضاء تيار المستقبل في شبعا، عبد الحكيم عبد الله، رئيسا للجنة العليا للاشراف على المستشفى، علماً أنه يحمل دكتوراه في الهندسة لا في الطب! وثانيها أن جمعية «المقاصد» نفسها تعاني من أزمة كبيرة، «ويبدو أن الغاية من كل ذلك هي حلّ أزمة المقاصد على ضهر مستشفى شبعا الحكومي، وتسخير المؤسسات الحكومية خدمة للمصالح الخاصة والمآرب السياسية والطائفية»، وفق ما أكّد هاشم لـ«الأخبار». إذ أن المستشفى «لم يستقبل حالات مستعصية رغم امكانياته الكبيرة وتجهيزاته الاستثنائية ما يدعونا الى السؤال عن جدواه، لا سيما أن موقعه البعيد لا يشجع أياً من أبناء العرقوب على تلقّي العلاج فيه. فيما المبالغ التي بدأت الامارات دفعها منذ عام 2016 غير معروفة الوجهة التي صُرفت فيها، باستثناء دفع مرتبات لبعض الموظفين سياسياً وحزبياً ولشركة أمن وبعض المستلزمات»، وفق هاشم.
الفضيحة الثانية، هنا، كانت في تعيين «المقاصد» موظفي المستشفى بشكل عشوائي، ومن دون اللجوء الى مجلس الخدمة المدنية، ليتبين أن غالبيتهم من موظفي الجمعية في بيروت.
ليست معروفة وجهة إنفاق الأموال التي خصصتها الامارات لتشغيل المستشفى في العامين الماضيين


الخميس الماضي، تحدث هاشم الى حاصباني لسؤاله عما سيفعله في شأن المستشفى، فأتاه الجواب مقتضباً: «يجب أن لا يبقى الوضع على ما هو عليه». علماً أن أحداً لا يعلم السبب الذي حال دون تدخل الوزير لترتيب هذا «الوضع» خلال عام ونصف عام من توليه وزارته، ولا عن خططه في هذا الشأن في ما تبقّى له من ولاية، ولا عن عدم استعانته بقوة القانون والمرسوم الوزاري لفرض سيطرة الوزارة على المستشفى واصلاح وضعه عبر تعيين مجلس ادارة قانوني يتعاقد مع الامارات تحت اشراف الوزارة.

عضو اماراتي في المستشفى!
ربّ قائل بأن هذه مشكلة ورثها الوزير القواتي من سلفه. لكن ما جرى في 28 أيلول الماضي يشير، بوضوح، إلى أن حاصباني على بيّنة من هذا الوضع المريب وجزء منه. يومها خرج سفير دولة الامارات حمد الشامسي ليطمئن عمال المستشفى المعتصمين احتجاجاً على تأخر رواتبهم بأن حقوقهم ستصلهم من خلال ادارة المقاصد في أقرب وقت ممكن. وقال إن التنسيق جار بين السفارة ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وحاصباني نفسه لمتابعة وضع المستشفى وابقاء أبوابه مفتوحة، وأوضح أن هذا التنسيق أسفر عن وعد ادارة «المقاصد» بتعيين مجلس ادارة جديد للمستشفى. ولعل الأغرب من موافقة حاصباني على الاستمرار بخصخصة هذا المستشفى خلافا لكل الأنظمة، كان إعلان الشامسي اتفاقه مع وزير الصحة على «تعديل في لجنة ادارة المستشفى لتضمّ عضواً اماراتياً يشرف على الشؤون المالية»! هكذا، سيتم تعيين عضو اماراتي في لجنة تدير مستشفى حكومياً لبنانياً! «أين حدود القانون والسيادة في لبنان العظيم؟»، يسأل هاشم. لكن السؤال الأهم هو: كيف صرفت الدفعات التي تقاضتها جمعية «المقاصد»، منذ سنتين، بقيمة مليون دولار سنويا على مستشفى لا يعمل؟ والأكثر أهمية: كيف تخصص وزارة الصحة سقفا ماليا بنحو مليار ليرة لمستشفى شبه مقفل يعمل كعيادات خارجية، يشكّل مجلس إدارته حمد الشامسي، وتديره مؤسسة خاصة؟



950 مليون ليرة من دون عقد
في تموز الماضي، ولـ«تبرئة» وزارة الصحة من «الاتهامات» بخفضها السقوف المالية للمستشفيات الحكومية ورفعها للمستشفيات الخاصة، أخرج وزير الصحة غسان حاصباني ورقة من جيبه تلا فيها «الزيادات» التي أقرّتها وزارته للمستشفيات الحكومية، وذكر من بين هذه مستشفى شبعا مشيراً الى أن سقفه المالي يبلغ 950 مليون ليرة. علماً أنه ليس هناك أي عقد بين الوزارة والمستشفى الذي لم يستحصل من «الصحة»، أصلاً، على رخص لتشغيل أقسامه!