الدواء ضرورة، فكيف اذا كان يتعلق بالسرطان والأمراض المستعصية. ولأن وزير الصحة غسان حاصباني ينتمي إلى القوات اللبنانية، كان حرياً أن يأتي الحرص على الدواء من نواب الحزب، فلا يطيحون بفرصة تأمينه للمرضى ويخرجون من الجلسة التشريعية، أول من أمس، قبيل انهاء جدول الأعمال ليتسنى الانتقال الى بنود أخرى ومنها اقتراحات القوانين المعجلة المكررة.«وجع الناس الأهم منا جميعاً»، كما قال حاصباني في مؤتمره الصحافي أمس، لم يكن بالنسبة الى حزب القوات اللبنانية أهم من بنود القوانين المتعلقة بـ«سيدر». إذ «عضّ» نواب القوات على «وجعهم» الى ما بعد الانتهاء من إقرار هذه القوانين. بعد ذلك فقط تذكّروا «وجع الناس»، فانسحبوا اعتراضاً على عدم عرض مشروع القانون المعجل المكرر لتأمين 75 مليار ليرة لبند الدواء بهدف إقفال العجز القائم وتغطيته. وهذا، بالمناسبة، عجز راكمه حاصباني خلال سنة ونصف سنة ولامس الـ100 مليار، وهو ما لم يصل اليه أسلافه خلال 3 سنوات.
بعيداً عن سوء ادارة الوزير (أو المكلف إدارة الوزارة) لملف الدواء تحديدا ومكابرته في الاعتراف بانقطاع دواء السرطان منذ أشهر، واصفاً من تحدث عن الأمر بـ«مشوهي صورته وانجازاته»؛ كان يفترض بمن قدّم نفسه كوزير استثنائي ونظيف وحريص على المصلحة العامة ومصلحة المواطن، أن يعدّ خطة متكاملة للنهوض بالقطاع الصحي وتفادي الوصول الى أزمة تضع حياة آلاف المرضى في خطر. فـ«ما وصلنا اليه اليوم من صرف لكل الاعتمادات المالية نتيجة وليس السبب: نتيجة سياسة فاشلة لا تضع في سلم أولوياتها صحة المواطن»، يقول رئيس «الهيئة الوطنية الصحية» الدكتور اسماعيل سكرية. الخطيئة الأولى تكمن في «تسليم شراء أدوية السرطان والأمراض المستعصية الى التجار المستوردين وما يرافق ذلك من سمسرات للتحكم بسعر الدواء، بالتواطؤ مع مغارة علي بابا في الوزارة. وعوضا عن استيراد هذه الأدوية من دولة الى دولة، أو أقله فرض سعر معين على المستورد، تركت الوزارة حياة المواطنين معلقة بجشع التجار». ويذكّر سكرية بأن السويد قدمت سابقاً عرضا مميزا للبنان، لكنه رفُض لأن «لا مصلحة لأي طرف للأسف بحصر النفقات وكسر التجار». أما الخطيئة الثانية، والأساسية، فهي في «عدم مراعاة قدرات لبنان الاقتصادية عند شراء الأدوية وتسجيل بعض الأصناف الباهظة التي ترفضها دول متقدمة كبريطانيا مثلاً». فيما، من جهة أخرى، «يتم اعتماد أدوية قيد التجربة لم يكتمل البحث العلمي حولها، وبأسعار خيالية». والخطيئة الثالثة تكمن في «بهدلة» المواطنين أمام مركز توزيع الأدوية في الكرنتينا. هناك، بحسب سكرية، «تُوزّع أدوية السرطان عشوائياً وتتحكم بالعملية الواسطة والانتماء الفئوي والحزبي والطائفي». تأمين أبسط حقوق المواطن كان يحتّم على حاصباني، أو أي وزير آخر، «فرض اللامركزية في توزيع أدوية السرطان والأمراض المستعصية ان في مراكز خاصة في كل محافظة أو داخل المستشفيات الحكومية مع تشديد الرقابة». ولكن، يقول سكرية، حتى خلال مرحلة توفر الدواء، لم يكن المريض يحصل على العلاج كاملا 100% سوى المرضى الذين يشترون العلاج على نفقتهم الخاصة.
مجددا، يتعلق الأمر بطريقة ادارة القطاع الصحي وبوضع سياسة شفافة تنحاز لمصلحة المواطن لا الاتجار به. والباب الى ذلك يكون أولاً «برفع الصوت لتطبيق القانون الذي يشدد على ضرورة وجود مختبر وطني». هنا تحديدا تكمن الفضيحة الكبرى، «الدواء لا يخضع للفحص، ولا جامعات في لبنان مؤهلة لانجاز كافة الفحوصات المخبرية. وفي غالبية الأحيان، يحصل تواطؤ بين تجار الأدوية والجامعات ما أدى الى اعطاء أكثر من 500 دواء شهادة جودة».
تذكّر نواب القوات «وجع الناس» بعد إقرار البنود المتعلقة بـ«سيدر»!

في نظر سكرية، «اذا كان الوزير يمثل الدولة المسؤولة عن الشعب كان حرياً به أن يبدأ اصلاحاته من هناك لضبط التجاوزات والجرائم التي تحصل بحق المواطن. فما يجري في غياب جهة صالحة لحسم وضع الدواء وجودته وسعره، خطير جدا. هكذا، يسرقنا التجار ويتلاعبون بصحتنا، تصرف الاعتمادات ويطالبون باعتمادات اضافية لزيادة السرقة». المثال على ذلك ليس بعيدا بل حصل منذ شهرين: تم تلزيم دواء الحمى المالطية الذي يقدر سعره بنحو 3500 ليرة لبنانية الى صيدلية الرحباني في جبيل، فأصبح سعره الجديد 30 ألفا! وحدث ولا حرج عن استبدال دواء الالتهاب الكبدي «ايباتيت سي» بدواء آخر أعلى سعرا. بعض ادوية السرطان يباع في لبنان بـ500 دولار ويصل أحيانا سعر الحقنة الواحدة الى ألف دولار فيما في سوريا السعر أقل ست مرات. أما الأدوية التي انخفض سعرها فالسبب في ذلك هو فرق سعر اليورو أو انتهاء براءة الاختراع الخاص بها. هناك «عهر بالتسعير»، وهناك أدوية ضغط وكوليستيرول بأسعار خيالية. والحديث عن «الجينيريك» واستبدال أدوية بأخرى أقل سعرا يصعب انجازه مع فرض الوصفة الطبية وتقييد الصيدلي بها. اذا، الموضوع ليس في قيمة اعتمادات الأدوية والمواد المخبرية التي بالمناسبة زادت العام الحالي من 144 مليار الى 158 مليار. ومسألة انقطاع ادوية السرطان لا ترتبط بغياب الأموال بل بخطة وزير الصحة، أو بالأحرى بعدم وضع خطة تؤدي الى تسكير دكاكين الدواء وكف يدّ المافيات، حتى تصل الأموال المصروفة للوزارة الى مكانها الصحيح. كل ذلك، لا يعفي الحكومة مجتمعة من واجب تأمين أدوية مرضى السرطان سريعا، فهؤلاء لا يتحملون بالتأكيد مسؤولية أخطاء وزير الصحة.