مرّت موافقة مجلس النّواب أمس على إبرام اتفاقية «معاهدة تجارة الأسلحة» بأقل السّجال الممكن بين القوى السياسية. ولولا انسحاب النائب علي عمّار من الجلسة احتجاجاً على الاتفاقية، لمرت من دون ضجّة، على رغم النقاش الذي حصل وتصويت عددٍ كبيرٍ من النواب ضدّها أو امتنعوا عن التصويت (نواب 8 آذار وعدد من نواب التيار الوطني الحر).غالباً ما تستعمل الاتفاقيات الدولية، خصوصاً تلك المتعلّقة بالأسلحة، سيفاً مصلتاً على رقاب الدول التي تدور خارج الفلك الأميركي. لو كان النّظام العالمي «عادلاً»، لكانت معاهدة تجارة الأسلحة أحد أهم الاتفاقيات الضامنة للسلم والأمن العالميين. لكنّها في ظلّ الهيمنة الأميركية الحالية على مؤسسات «المجتمع الدولي» والأمم المتحدة، فإنها تبدو تسليماً بضرورة انصياع الدول الضعيفة أو حتى تلك القوية بحدود، لما يسمّى «الإرادة الدولية» ولو تضاربت هذه الإرادة مع المصالح الوطنية.
معاهدة تجارة الأسلحة هي اتفاقية ملزمة لوضع معايير محدّدة لنقل الأسلحة التقليدية والاتجار بها بين الدول. في حالة العدو، تتهرّب إسرائيل دائماً من توقيع الاتفاقيات التي تحدّ من قدرتها على الحصول واستخدام الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل، وحتى أنها تخرق الاتفاقيات التي توقّعها ولا تنفذ القرارات الدولية، فإن اتفاقية حظر الأسلحة التي وقعتها دولة الاحتلال في العام 2014 لا تشكّل أي عائق أمام صادراتها ووارداتها من الأسلحة. لكن مثلاً، تصرّ إسرائيل على استخدام القنابل العنقودية، وعلى رغم المطالبات الدولية، التي أصبحت خجولة أخيراً، تمتنع إسرائيل عن التوقيع على معاهدة حظر القنابل العنقودية، فيما هرول لبنان نحو التوقيع عليها في العام 2010، مع أنه ضحيّة لهذه القنابل. حتى أن الأموال التي وعد لبنان بتلقيها بعد توقيعه الاتفاقية والحصول على 12 مليون دولار لاستكمال إزالة أكثر من 22 مليون قنبلة عنقودية لا تزال تنتشر في البلاد جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، لم تُدفع بعد، وهو المثل الذي استعمله النائب نواف الموسوي أمس في معرض انتقاده لمعاهدة تجارة الأسلحة.
في حالة لبنان الذي يخوض حرباً دائمة غير تقليدية لناحية وجود مقاومة شعبية إلى جانب الجيش اللبناني عوضاً عن المواجهة من جيش إلى جيش مع العدو الإسرائيلي، فإن تهريب الأسلحة والحصول عليها بطرق خارجة عن الاتفاقات الرسمية بين الدول، وطرق البيع والشراء المعتادة، تشكّل رافداً أساسياً من قوة المقاومة وقوّة الردع التي اكتسبها لبنان منذ الثمانينيات، وتعاظمت اليوم مع حصول المقاومة على أسلحة حديثة ومتطورّة. وهذه الأساليب التي تعدّ جزءاً أساسياً من عمل المقاومة السّري، بمعزل عن الاختلاف السياسي حولها في الداخل اللبناني، إلّا أنها واردة في كل البيانات الوزارية منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم من ضمن حقّ المقاومة بالأساليب المتوافرة، وجزء من أي استراتيجية دفاعية مقبلة تأخذ في الاعتبار التفوّق الإسرائيلي، عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً على الساحة الدولية.
وبالتالي، فإن ما من شيء يلزم لبنان التوقيع على هذه المعاهدة، التي من الممكن أن تكون في المستقبل جزءاً من ورقة الضغط الدبلوماسية في مسعى الدول المؤيّدة لمواقف إسرائيل بالإشارة إلى قيام المقاومة بتهريب الأسلحة والطلب من الدولة اللبنانية الالتزام بـ«تعهداتها» بالمعاهدة وضبط الحدود والمعابر البرية والبحرية والجوية، علماً أن فريق المقاومة وحلفائها في لبنان، بدوره، لا يقيم وزناً للقرارات الدولية التي تصبّ في مصلحة إسرائيل. ولن تكون معاهدة تجارة الأسلحة، أكثر تأثيراً من القرار رقم 1559، الذي يدعو إلى تجريد المقاومة من سلاحها وتعجز أي قوة في العالم عن تطبيقه حتى الآن. ولو شعر فريق المقاومة فعلاً بالتهديد، لكان تمّ التعامل مع الاتفاقية بطريقة مغايرة، ولكان بالإمكان الحصول على الأكثرية من النواب ورفض التوقيع على المعاهدة.
لكن يحرص لبنان الرسمي دائماً، وباتفاق ضمني غالباً بين القوى السياسية، على التعامل باهتمام عالٍ مع الإرادات الدولية. فالفريق الذي يدّعي الحرص على «السيادة» و«الاستقلال»، يتعامل مع لبنان وكأنه مولود دولي تشترك الأقطاب الدولية والإقليمية في رعايته، وهذه الرؤية عميقة وقديمة في تكوين الكيان اللبناني. أما الفريق الآخر، الذي لم ينتظر «المجتمع الدولي» لتحرير الجنوب اللبناني ومواجهة العدو الإسرائيلي، فهو على الأرجح، يستفيد من موقف الفريق الآخر وانبطاحه أمام الغرب والقوى الدولية، في لعبة توزيع أدوار، نجحت حتى الآن في تجنيب لبنان حرباً كان يمكن أن تندلع على وقع الحرب السورية. ولعل النقاش أمس، أنتج مواقف «معقولة» على لسان نوّاب كانوا دائماً على الضفّة المعادية للمقاومة، كالنائب مروان حمادة مثلاً، الذي حرص على تأكيد الفصل بين سلاح المقاومة و«الإرهاب» والتأكيد على حاجة اللبنانيين إلى سلاح المقاومة. فيما كان موقف الرئيس المكلّف سعد الحريري لافتاً أيضاً، في إشارته إلى أن «المعاهدة لا تؤثّر على المقاومة»، قائلاً: «نعرف كلّنا كيف نتعامل مع هذا الأمر».