لم يعد جديداً احتلال لبنان مركز «الصدارة»، بين دول المنطقة، في نسبة الإصابة بأمراض السرطان! وفي العادة، تركز التقارير، في هذا الشأن، على عدد الإصابات ونوعيتها قياساً إلى عدد السكان. إلا أن أياً منها لم يتناول جغرافية المرض ومناطق انتشاره، لا سيما تلك القريبة من الأماكن المشبوهة كشركات الترابة ومطامر النفايات ومكباتها والمصانع ومحطات توليد الطاقة والأنهر الملوثة والزراعات الملوثة (التي يمكن أن تشمل كل المناطق)... إضافة إلى المدن التي تنحبس فيها الرياح وتزداد نسب تلوث الهواء. علماً أن هذا النوع من الدراسات لن يكون دقيقاً بالتأكيد، نظراً إلى تشعب الملوّثات وتداخلها وانتشارها بشكل لم يسبق له مثيل.لذلك، يفترض إعادة النظر بطرق البحث عن الأسباب. فعلى عكس ما يظن بعض من انزعجوا أخيراً من رائحة النفايات، بعد تركها تتراكم وتتخمر لفترة طويلة، وصدور تقارير تحمّلها مسؤولية زيادة الأمراض السرطانية، هناك من يؤكّد أن هذه الزيادة هي نتيجة تراكم عوامل أكثر خطورة من النفايات، لا بل يمكن أن تكون من مواد ذات رائحة جميلة كما في مواد التجميل والتعطير. وإذ بتنا نعيش في غابة من المواد الكيميائية التي تدخل في نسيج حياتنا اليومية، ما عدنا نعرف من أين تأتي الأمراض، وفي طليعتها السرطان على أنواعه.
كان أبو الطب ابن سينا يقول «شخّص الداء وعالج بالماء»، بمعنى أن التشخيص ومعرفة أسباب العلة هو الأصل، وبعدها يصبح العلاج سهلاً. ولعل ذلك ما يفسر اليوم سبب تزايد المرض مع صعوبة مواجهته.
في كتابه عن «يوميات السرطان»، الصادر في نيويورك عام 2013، يعود الكاتب العلمي جورج جونسون في بحثه عن السرطان إلى العصور الجوراسية، مستنداً إلى أبحاث «الجمعية الأميركية لأبحاث السرطان» التي بينت أن هذا المرض كان من مسبّبات انقراض العديد من الأنواع. إلا أن معظم الأبحاث أكد أن السرطان كان نادراً جداً قبل أن يبدأ البشر العبث بالأرض وموارد الطبيعة. أما الاستنتاج الأبرز لهذه الأبحاث، فهو أنه ليس هناك أي فئة مستثناة من السرطان في مملكة الحيوانات، وأن الثدييات تصاب به أكثر من الزواحف والأسماك، وأن البشر يصابون بأكبر عدد من السرطانات من بين جميع الكائنات الحية.
تتعقّد الأمور أكثر كلما بحثنا في جغرافية المرض. لطالما تحدثت التقارير عن أن من يعيشون بالقرب من مناطق تحتوي على تربة غرانيتية وينبعث فيها غاز الرادون أكثر تعرّضاً للإصابة... إلا أن تقدم الأبحاث أثبت أن 90% من الأمراض السرطانية ناجمة عن عوامل بيئية، قبل أن تكون وراثية. كما وجهت أصابع الاتهام، إضافة إلى النظام الغذائي الحديث والسمنة والتدخين وقلة الرياضة... إلى كثير من المواد الكيميائية الموجودة في حياتنا اليومية، لا سيما المضافات الغذائية والمبيدات الحشرية والمنظفات المنزلية على أنواعها ومواد البناء والتجميل... وهي مواد تحتوي مواد كيميائية لا تحصى. وعلى رغم أنها صغيرة الحجم نسبياً ولا رائحة لها، إلا أنها ذات طبيعة تراكمية لأننا نتعرض لها باستمرار في حياتنا اليومية. أمام كل ذلك يصبح الحديث عن مطامر النفايات ومكباتها بوصفها مسرطنة، كما يتم الترويج في الفترة الأخيرة، أمراً مضحكاً في ظل هذه الغابة من المسرطنات التي نعيش فيها!
ما الذي يمكن فعله في بلد لا حكومة فيه ولا إدارة نظيفة ولا تخطيط، وفي غياب استراتيجية للتنمية المستدامة تأخذ في الاعتبار كل العوامل المساهمة في تراجع نوعية الموارد ونوعية الحياة في لبنان؟ وكيف السبيل إلى محاربة هذه الآفة القاتلة على المستوى الوطني، في ظل سوء الإدارة والفساد الذي لا يوفّر شيئاً؟
الاتجاهات الغالبة في محاربة السرطان في العالم تتمحور على جبهتين: جبهة علم الجينات وجبهة علم المناعة. ما يوحي أن المجتمع العلمي قد استسلم في رحلة البحث عن الأسباب (على طريقة ابن سينا)، بعدما طرأت تغيرات هائلة على الطبيعة بفعل التصنيع والاستهلاك والتلوث ومع تعامل الإنسان، في حياته اليومية، مع آلاف المواد الكيميائية التي يصنف معظمها في خانة المسرطنة أو المشكوك بأمرها. وهو اتجاه لا يوحي بالاطمئنان إلى مصير البشرية والنوع الإنساني على الإطلاق، بعكس ما تروج الكثير من المدارس الفكرية والعلمية التي تراهن على الهندسة الجينية. فسيناريو تعديل الجينات باستمرار لتحاشي الأمراض، يمكن أن يساهم في توحيد جينات البشر، بعد أن كان تنوعها سبباً في استمرارها وديمومتها، ويمكن بالتالي أن يسهل على أي مرض فتاك كالسرطان أن يقضي على النوع البشري ويتسبب بانقراضه أسوة بالكثير من الأنواع الثديية التي انقرضت.
أما على جبهة تقوية جهاز المناعة، فلا يزال هناك اتجاه في العالم يراهن على إمكانية الخلاص الفردي عبر الاعتماد على نظام غذائي طبيعي عضوي خال من الكيميائيات وممارسة الرياضة والابتعاد عن الحياة في المدن الملوثة (في الغذاء والهواء والضجيج والضوء).
مراهنة كهذه خاسرة حتماً في بلد، يبدو وكأن حكّامه ومسؤوليه قرروا اقتياد شعبه إلى انتحار جماعي!