تحرص وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، في كل بياناتها الصحافية، على التذكير بدور الولايات المتحدة في تمويل الوكالة وأنشطتها، وهي تضعها في المرتبة الاولى كداعم أساسي لها، يليها الاتحاد الأوروبي. وتشيد الوكالة بدور واشنطن «الراسخ والمثالي» في تمويل الوكالة منذ عام 1949. هذا التعريف الأممي والإشادة بدور الولايات المتحدة المالي، في عمل الوكالة التي طالما تعرضت لهزات تمويلية عدة، لا ينعزل عن الإطار السياسي لقرار من نوع وقف التمويل الأميركي. فهو يأخذ بطبيعة الحال أبعاداً سياسية، بقدر مخاطره المالية، بسبب الظروف التي تعيشها المنطقة حالياً.
ما يعني لبنان أمر أساسي من هذا القرار، الذي يؤثر على عمل الوكالة ليس في لبنان فحسب بل في سوريا والاردن وفلسطين، هو تعويم موضوع توطين الفلسطينيين، وما ينتج عنه من تفاصيل تتعلق بمسار مستمر منذ شهور طويلة، غاب عنه لبنان الرسمي.
منذ القمة العربية في عمان عام 2017 الذي كان لبنان حاضراً فيها، ومسار التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية يؤكد الاتجاه الى تطورات غير سليمة تتعلق بواقع الفلسطينيين في لبنان ومستقبل وجودهم. ففي كواليس تلك القمة، كان هناك حديث عن فصل القضية الفلسطينية عن الصراع العربي الاسرائيلي والخروج من دائرة حق العودة. لكن لبنان الرسمي غفل عن هذا الواقع، وغرق في الملفات الداخلية، من دون معاينة حثيثة لما يُعدّ إقليمياً ودولياً. ورغم أن التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية شهدت هذه السنة إشارات بارزة تتعلق بصفقة القرن التي أصبحت حيثياتها معروفة، إلا أن لبنان ظل غائباً عنها أيضاً بسبب الانتخابات النيابية وبعدها مماحكات تشكيل الحكومة.
في ظل هذا المشهد، برز في كانون الاول 2017 موضوع تعداد الفلسطينيين في لبنان، الذي أجرته لجنة الحوار اللبناني ــــ الفلسطيني التابعة لمجلس الوزراء، بالتعاون مع مديرية الإحصاء المركزي والتي عكست بقوة خلفيات مبهمة تتعلق بتخفيض عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الى 174 ألفاً. أرقام خرجت في احتفال رسمي، عبر لجنة تابعة لرئاسة الحكومة اللبنانية وخلال العهد الحالي، من دون أن يرف جفن أحد من المسؤولين الرسميين اللبنانيين. لا بل إن صمتاً رسمياً ساد منذ ذلك الحين حول عمل لجنة الحوار وخلفياتها، وكيف أنتجت أرقاماً مشكوكاً فيها، فيما وكالة «الأونروا» نفسها والمؤسسات الامنية الرسمية تتحدث عن أرقام مغايرة تماماً.
في الوقت نفسه، أطلّت قضية النازحين السوريين، والكلام عن عودتهم الضرورية. وعلى أهمية هذه العودة الملحّة، إلا أنه بدا في مكان كأنه يغطي أبعاداً أخرى تتعلق بواقع الوجود الفلسطيني في لبنان وتحويل الأنظار عنه. من هنا ثمة فائدة من القرار الاميركي الأخير، أنه حرك المياه الراكدة، وأعاد تصويب البوصلة اللبنانية نحو واقع التوطين، منذ أن انفجر في التسعينيات عندما أراد الرئيس الراحل رفيق الحريري تأمين منطقة القريعة كمقر دائم للفلسطينيين، علماً بأن لبنان تعاطى مع القرار الاميركي كأنه مفاجئ، فيما كانت الدوائر الاممية، حين لوحت أخيراً بتأمين حماية دولية للبنان وحكومته التي لم تبصر النور بعد، أعطت إشارات عن أن لبنان يجب أيضاً أن يلبي رغبات المجتمع الدولي وطلباته في ما يتعلق بكل ترتيبات المنطقة، ومن بينها القضية الفلسطينية.
فائدة القرار الأميركي الأخير أنه حرّك المياه الراكدة، وأعاد تصويب البوصلة اللبنانية نحو واقع التوطين


من هنا تبدو مقاربة لبنان الرسمي بعيدة عن ترجمة عملية مؤثرة حقاً في المسار المرسوم، لأن لبنان يتمسك بمقدمة الدستور ورفض التوطين، وهذا الدستور المنبثق عن الطائف يحتاج الى حماية دولية وعربية، وهذا ليس واقع الحال اليوم، لا بل ثمة رغبة دائمة ومستمرة لتخطّيه والقفز فوقه. وفي ظل الاصطفافات الاقليمية، تنكفئ أي حماية عربية ودولية للبنان، ما يجعل مقدمة الدستور ولازمة رفض التوطين شأناً داخلياً محضاً، يتم استخدامهما في لحظات مناسبة كما يجري اليوم، فضلاً عن محاولة لبنان فرض أجندته على دول عربية وعلى واشنطن، في أدق مرحلة، لا يقيم فيها علاقات سوية مع الطرفين، لأن سياسته الخارجية غير مبنية على توازن بين القوى الاقليمية والدولية في صراعها في المنطقة. وفق ذلك، يصبح من الصعب الطلب من دول الخليج القادرة على التمويل وعلى دور دولي مؤثر، الوقوف الى جانب لبنان في محنة التوطين ومواجهة قرار واشنطن، إذا كانت هذه الدول لا تنظر بعين الرضى الى سياسة لبنان الخارجية ومن ملفات عالقة بينه وبينها.
ومن الصعب على لبنان أيضاً تحدي واشنطن والطلب منها تغيير سياستها، في وقت تميل فيه كفة السياسة الخارجية والخطاب السياسي نحو موسكو وطهران ودمشق، وسط إهمال متعمّد لدور واشنطن ودول خليجية فاعلة، وهي القادرة مالياً على دعم الوكالة الدولية، وهذه كلها لن تكون غب الطلب حين يستفيق لبنان متأخراً على دورها، ولا سيما أن المطلوب فقط يتعلق بالمحفظة المالية لا أكثر ولا أقل.