قبل أسبوعين، وصل إلى لبنان وزير الطاقة السوري محمد زهير خربوطلي. الخبر كشف عنه وزير المال علي حسن خليل لقناة «الميادين»، مُضيفاً أنّ سوريا قدّمت إلى لبنان عرضاً لاستجرار الطاقة أرخص «من البواخر أو حتّى المعامل، مع إمكانية أن تصل التغذية إلى 350 ميغاواط. أنا كوزير مال، أرسلت الموافقة إلى مؤسّسة كهرباء لبنان لوضعها موضع التنفيذ». هل وصل الخبر إلى مسامع تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وفريق 14 آذار السياسي، «المنتفضين» ضد «التطبيع» مع الدولة السورية؟ الأرجح أن يكون الجواب إيجابياً، ولكنّ هذا الفريق السياسي الذي انغمس «حتى العظم» في مشروع استهداف سوريا، يتعامل مع الأمر وفق سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال.ملف العلاقة بين لبنان وسوريا استراتيجي، إلى درجة أنّ بعض أركان الدولة اللبنانية يعتقد أنّ بالإمكان تقرير مصيره من خلال تصريحات إعلاميّة أو شعبوية. رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري، في مقدّم هؤلاء، الذين قرّروا التعامل مع الملّف اللبناني ــــ السوري بديماغوجية، بعيداً من أي منطق سياسي أو مصلحة وطنية. لم يكتفِ بذلك، بل ذهب حدّ ذرّ الرماد في عيون الرأي العام اللبناني، من خلال تقديم معلومات، يُدرك تماماً عدم صحّتها.
في 14 آب، قال رئيس تيار المستقبل إنّه غير موافق على «عودة العلاقات اللبنانية ــــ السورية... هذا أمرٌ لا نقاش فيه». لافتةٌ لغة الحسم التي استخدمها الحريري. ولكنّها كانت لتكون أكثر إقناعاً، لو لم تكن العلاقات الثنائية بين البلدين الجارَين الشريكين في مُحاربة الإرهاب والعدّو الصهيوني، قائمة ولم تنقطع يوماً! لا بل عمد الجانب اللبناني إلى «تعزيزها» من البوابة الدبلوماسية. فحكومة سعد الحريري، هي التي وافقت في تموز الـ2017، على تعيين السفير سعد زخيا على رأس البعثة اللبنانية في دمشق، بعد أن كان المنصب بعهدة القائمة بالأعمال فرح برّي. لو أراد لبنان توجيه رسالة سلبية إلى الدولة السورية، لكان خفّض التمثيل الدبلوماسي، عوض إرسال دبلوماسي برتبة سفيرٍ إلى سوريا لتمثيله.
مصلحة لبنان الاقتصادية قائمة على تعزيز التعاون مع سوريا


لا يتعلّق الأمر فقط بالجانب الدبلوماسي. فلا يُمكن أحداً أيضاً القفز فوق التنسيق الثنائي، الأمني والإنساني (النزوح) والزراعي والصناعي والكهربائي العلني والذي تتمّ المُجاهرة به. في أيلول 2017، التقى الوزيران جبران باسيل ووليد المُعلّم، مُتحدّثين عن العلاقات الثنائية «بين البلدين الشقيقين»، ومن ضمنها «التنسيق والتعاون السياسي والاقتصادي». وفي بداية آب، كشف الوزير سيزار أبي خليل، أنّه «على تواصل مستمر مع وزير الطاقة السوري، وتأمين الكهرباء من سوريا أمر واردٌ». كما أنّ تلبية وزراء لبنانيين، لدعوات من الحكومة السورية لم تتوقف، وآخرها مُشاركة الوزير حسين الحاج حسن في «معرض رجال الأعمال والمستثمرين في سوريا والعالم 2018»، وقد تحدّث يومها وزير الصناعة عن عددٍ «من المصانع المشتركة بين البلدين يتمّ العمل عليها عند المناطق الحدودية في الهرمل وبعلبك والقاع». قريباً، سيطل عدد كبير من الوزراء اللبنانيين وممثلي القطاع الخاص في لبنان عبر معرض دمشق الدولي (أيلول المقبل).
ليس الحريري وحلفاؤه (بعضهم يأمل في أن يكون شريكاً في إعادة إعمار سوريا)، بمعزلٍ عن هذه الوقائع، وإن كابروا عليها. والتأكيد على ذلك، ليس بحاجةٍ إلى ضيافة جديدة للحريري في قصر تشرين، و«مُصافحة حارّة» مع الرئيس بشار الأسد. يكفي أن يكون المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مُكلّفاً رسمياً من رأس الدولة اللبنانية لمتابعة ملّف النازحين، حتى يكون التواصل قائماً بصورة «شرعية».
أصلاً، لا يُمكن الحديث عن مُبادرة روسية في ملف النازحين، أو غيره، من دون إدراك أنّ الحكومة السورية ستكون في صلبها. هذا ما أبلغته موسكو صراحة للحريري. سوريا لن تقبل إلا باحترام كامل للسيادة السورية في كل الملفات من دون استثناء. وما تُريده سوريا، هو الانتهاء من ملّف النازحين وعودتهم إلى بلدهم، قبل الانتخابات الرئاسية في الـ2021. فتكون عندئذٍ، قد أسقطت صفة النازح عن أي سوري يبقى خارج بلده، على أن لا يُشارك في الاستحقاق الرئاسي إلا من هو في الداخل. لذلك، تريد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، عرقلة أي عودة للنازحين إلى سوريا، قبل الـ2021، وهو ما يُعبّر عنه الحريري محلياً، برفضه أي عودة جماعية للاجئين إلا برعاية الأمم المتحدة ووفق آليات متناغمة مع غير مصلحة لبنان وسوريا.
علاقة «الوصاية» من السعودية تجاه الحريري، تدفع البعض إلى الاعتقاد بأنّ موقفه أخيراً من التنسيق اللبناني ـــ السوري، تعبيرٌ عن وجهة نظر سعودية. لا سيّما أنّ الحريري، وفي لحظة توافق سعودي ــــ سوري، غطّ في العاصمة دمشق. إلا أنّ مصادر سياسية مُطلعة، تُرجّح أن يكون رئيس الحكومة المُكلّف «يُعبّر عن رأي شخصي، مُفترضاً أنّه بهذا الكلام يتكلّم لغة الرياض، وبالتالي يتوجّه إليها برسالة تُطمئنها». علماً أنّ الرياض «تُفضّل في هذه المرحلة اعتماد سياسة الصمت، في ظلّ الحديث عن مُحاولتها طرق أبواب دمشق، من دون أن تلقى جواباً حتى الآن».
موقف الحريري استدعى ردّاً من الرئيس ميشال عون، فنقل عنه زوّاره («الأخبار» عدد 17 آب 2018) أنّ الجانبين اللبناني والسوري سيتفقان في الوقت المناسب على آلية رسمية في شأن فتح معبر نصيب. ثمّ أتى خطاب الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله، ناصحاً «بعض القيادات» (الحريري ضمناً) «تهدي حصاناتها»، في موضوع العلاقة مع سوريا. دعا هؤلاء «ألا يلزموا أنفسهم بمواقف قد يتراجعون عنها». وكان لافتاً أنّ عون ونصرالله، فصلا ما بين تشكيل الحكومة وملّف التنسيق مع سوريا، على عكس الحريري الذي اعتبر أنّ الثانية ستنسف الأولى. مصادر سياسية مُطلعة توضح أنّ «الغاية من كلام عون ونصرالله، أن لا يُصور وكأنّ في البلد وجهة نظر واحدة (سلبية) من العلاقة مع سوريا». وتُضيف المصادر أنّ مصلحة لبنان الاقتصادية قائمة على تعزيز التعاون مع سوريا. وفي النتيجة، «سيكون هناك تطور تدريجي للعلاقة مع دمشق، سيفرض نفسه، مُعزّزاً بوضع سوريا الميداني».