لا تشبه حال تلة مار يوسف في القوزح (بنت جبيل) هذه الأيام ما كانت عليه قبل 12 عاماً. سكون عميق يسكن التلة المقابلة لخلة وردة (عيتا الشعب). المكان المقدس الذي مر به النبي يوسف، بحسب الروايات التاريخية، متروك للريح تسبر الأحراج الكثيفة، وللعصافير تنعم بالأمان بعيداً عن الصيد... ولبياتريس موغيه (50 عاماً). تقدم الراهبة الفرنسية نسخة معدلة للمرسلين التبشيريين والمستشرقين الذين وفدوا من أوروبا إلى لبنان في القرون الأخيرة. تردّ على استغراب كثيرين لدوافعها التي ألقت بها عند الحدود الجنوبية النائية، بالقول: «أنشد السكينة والسلام». «صوت إلهي أسمعه في قلبي» جعلها قبل 28 عاماً، عندما كانت في الثانية والعشرين، تزهد بالدنيا. في دير للراهبات في موطنها فرنسا، أقامت لسنوات ودرست اللغة الفرنسية، قبل أن تلتحق براهبات الدومينيكان للهدف ذاته. الخدمة التطوعية قادتها لاحقاً إلى بلجيكا والغابون الأفريقية. وفي عام 2008، قادها «الصوت الإلهي» نفسه إلى لبنان.
(علي حشيشو)

«لبنان بلد السبعة عشر ديناً»، كما تعرف عنه موغيه، لم يكن غريباً عنها عندما زارته عام 2009. بين عامي 1970 و1972، أقامت فيه مع عائلتها أثناء عمل والدها طوبوغرافياً في شركة فرنسية لتأهيل الطرقات. بعد 37 عاماً، شقت موغيه طريقها إلى بلدة عين إبل الحدودية (بنت جبيل). «الوحي الإلهي الذي نذرني لبث السلام بين الناس قادني إلى جنوب لبنان حيث التقاطع بين الإسلام والمسيحية واليهودية». ضمن «الجماعة الكاثوليكية العاملة»، التحقت بدير «راهبات القلبين الأقدسين»، ودرّست الفرنسية في المدرسة التابعة لهن. إقامتها في عين إبل مكّنتها من التعرف إلى البلدات المحيطة، فتوقفت عند القوزح شبه المهجورة التي تتحلق منازل قليلة حول كنيستها. في 2011، قررت الانتقال للعيش فيها. تقول إن «فقر أهلها القليلين وحاجتهم شدّاني لخدمتهم». مع جمعية الشبيبة المسيحية، نشطت في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. هناك، اكتشفت تلة مار يوسف التي تبلغ مساحتها نحو 50 هكتاراً.
«أريد أن أمضي بقية حياتي هناك مع الله ومريم ويوسف وموسى وإبراهيم وإلياس وآدم ونوح وأعمل لبث السلام والسكينة بين الناس»، قالت موغيه لمطران صور وتوابعها للموارنة شكر الله الحاج. تبنى الأخير دعوتها «المستندة إلى وحي إلهي يحركها». وافق على أن تسكن في التلة التابعة لوقف المطرانية. في عام 2013، منحها سر الرهبنة، ونذرت نفسها للمسيح ولبست في يدها اليسرى خاتم «زواجها» منه.
منذ خمس سنوات، تعيش موغيه بعيداً عن البشر، لكنها تستقبل المؤمنين من كل الطوائف نهاية الأسبوع. جمل وحمار ودجاج وقطط وكلاب وطيور تعيش معها في جزء من التلة الحرجية في بيت خشبي جاهز ضمن مقومات بسيطة. التيار الكهربائي وصل إلى بيتها منذ ثلاثة أشهر وتشتري المياه عند الحاجة «مثل اللبنانيين». قلة المياه لم تساعدها في إنجاح زراعة الزعتر والزعفران والخزامى التي أسستها فوق التلة.
أشعر بالأمان بسبب وجود شباب حزب الله الذين يحمونني وقد أصبحوا أصدقائي


«صلّي من أجل المصالحة والسلام في هذه المنطقة»، همس النبي يوسف للأخت موغيه ذات يوم. تراءت لها فكرة بناء كابيلا «العذراء سفينة السلام» تيمناً بسفينة الخلاص للنبي نوح «من أجل عيش السلام وإشاعته في الجنوب»، واستحداث «طريق السلام» كمسار للرياضة الروحية حول التلة، إضافة إلى مدرسة «التأمل والصلاة».
تردد الراهبة ــــ الـ«مودرن» في تصرفاتها وزيّها ــــ كلمة السلام عشرات المرات في حديثها. نلفتها إلى أن العدو الإسرائيلي المرابض قبالتها يشكل خطراً على مشاريعها، بل على وجودها كله. تقاطعنا بثقة وابتسامة عريضة: «لن تحصل الحرب مجدداً في هذه المنطقة. قد تحصل في بلدان أخرى حولنا، لكن ليس هنا». تعلل تأكيدها على مستقبل السلام بأنها «شمس تشع سلاماً في المكان الذي أقيم فيه». ألا تخشين من العيش وحيدة في البرية؟ «أشعر بالأمان بسبب وجود شباب حزب الله في الأنحاء. هم يحمونني وقد أصبحوا أصدقائي».