رحل ملحم أبو رزق،رحل الصديق والرفيق والمناضل العتيق المعتق كخابية نبيذ، كلما فرغت امتلأت من جديد بالشغف والحماسة والعزم والإصرار ومواصلة مسيرة الحبر والورق المكتنز بالمعاني النبيلة والمواقف الناصعة النفيسة، والمجبول بعرق الكدح اليومي والكفاح الناصع لأجل الفقراء والمظلومين والمستضعفين في الأرض.
رحل المتواري خلف ظله، لا يبغي جزاء ولا شكوراً. جلّ همه ما يؤمن به وما يسعى إليه، وعمره ما سعى لمنصب أو موقع أو جاه، هو المستحق أكثر من ذلك بكثير، ويكفيه أنه الجندي المجهول بلا نصب ولا تذكار سوى السيرة العطرة والمسيرة العصماء، والنضال الخَفِر الصامت الدؤوب لأجل الآخر قبل الأنا، أناهُ التي تلاشت حتى اضمحلت في الـ"نحن" مُذْ اعتنقَ الكلمة الملتزمة الصادقة حتى الرمق الأخير.
تغيرت الدنيا وتغير الناس، ولم يبق حجر على حجر من عمارات أحلام كثيرة، وبقي هو الرفيق الحقيقي والوفي ليس لمبادئه فحسب، بل لكل أصدقائه ورفاقه القدامى الذين كان يسارع إلى عناقهم واحتضانهم كأب ملهوف وحنون في زمن تشوّهت فيه العلاقات الإنسانية وساد النفاق والرياء والتكاذب الاجتماعي، فيما بقي كبيرنا ـــــ الذي علّمنا التفاني ــــ ريفياً نقياً رحباً كمعظم أبناء بلدته المتين المعانقة لسحاب جبل لبنان.
رحل ملحم أبو رزق،
رحل المناضل المنسوج من قماشة نفيسة نادرة لم تنل الأيام من ثوبه ولا من قلبه أو عقله، كثُر المناضلون الافتراضيون والاستعراضيون وباعة الكلام في أسواق المزايدات، لكنه لم يسأم ولم يتعب، اكتفى من دنياه بنضاله الصادق الحقيقي العميق الملتزم حتى الذوبان المطلق ونكران الذات لأجل الجماعة التي كانت له أكثر من بيت وأسرة وفراش أحلام سعيدة.
عملت معه وإلى جانبه لسنوات ست متتاليات في جريدة "النداء" التي كانت بيتنا، لا مكان عمل أو وظيفة، كانت سنوات عجافاً على الوطن والناس، وسماناً في التجربة والمِراس. سهرنا حتى مطلع الفجر والجريدة، لم تكن التقنيات متطورة كما هي حالها اليوم، كان الحبر يعلق بأطراف أصابعنا ورائحة الورق تفوح كأرغفة خبز ساخنة، وكم كنا نفرح حين يأتينا بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية بنبأ عملية ناجحة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. فَنُطرِّز لها العناوين ونزركش الكلمات، وكم كنا نحزن لفقدان زميل أو رفيق، وخصوصاً أولئك الذين سقطوا خطأ في غير التراب الذي كانوا يشتهون الاستشهاد عليه: جنوباً... نحو فلسطين.
رحل ملحم أبو رزق،
رحل مَن لم يفقد البوصلة يوماً وما أخطأ الاتجاه، وكنا معاً في خضم الفجيعة تحت دويّ القصف وأزيز الرصاص الذي انحرف عن مساره زمن التقاتل والتذابح الأخوي (!)، ذقنا رائحة النار والبارود، وعرفنا طعم الرطوبة في الملاجئ والغرف السفلية، لكن قمر أحلامنا لم يغب ليلة واحدة، كنا معاً وكان معنا سهيل عبود ونبيل حاوي والياس شاكر وحسن الشامي وإلهام أبو مراد وحسن مقلد وإبراهيم الأمين وصبحي زعيتر ومصطفى ياسين وحسن سلامة وفاطمة حوحو ومريم ابراهيم وسمير رزق ورفاق كثر لا يتسع المجال لتعدادهم، وإن اتسع لهم القلب وصندوق الذاكرة الذهبية. توزعوا في الصحف والأهواء، منهم مَن قضى ومنهم مَن ينتظر على أمل عالم أكثر حرية وحباً وخيراً وجمالاً، فيما بقي ملحم حارساً دهرياً على شرفة الحلم الجميل.
حين جفّ الحبر وشحّ الورق أو بهت لونه، أصرّ ملحم على أن يبقى صوتاً للشعب، فكانت إذاعة "صوت الشعب" بيته الجديد الذي لم يعتق ولم يتداعَ، وإن أصابت الندوب الغائرة ذاكرته وجدرانه. الرفيق المدمن على العمل لم يترك الميدان إلَّا ساعةَ تمكّن منه المرض، هو المتمرس في مكافحة الخبث ومصارعة الأمراض، قاتل على الجبهات كلها حتى حقَّ له أن يرتاح حين دبَّ فيه نعاس الوداع. رحل جسداً ليظلَّ روحاً مُحلِّقة في فضاء النقاء والصفاء والنصاعة غير الملوثة بانبعاثات الزمن الاستهلاكي الفاجر، غادرنا في عزّ الفجيعة التي فرضها الاستعمار والاستكبار المرتدي لباس التكفير والتطرف والإرهاب، المتنكر بشعارات الحرية والديموقراطية و"الربيع" المتحوّل جحيماً حاصداً ملايين الأرواح البريئة. رحل تاركاً حلماً دائماً لا يشيخ بلبنان يليق بتضحيات بنيه ودولة مدنية لا تنهشها فيروسات الطائفية والمذهبية، وبفلسطين حرَّة مستقلة، وبسوريا معافاة من كل جراحها، وبربيعٍ عربيٍّ حقيقيٍّ تُزهِّر فيه أحلام الناس وتتحرر به مجتمعاتنا من الرجعية والتخلف والفساد والاستبداد، وبسنديانة تستعيد اخضرارها وظلالها التي كانت وارفة في كل الميادين والساحات، وفي المقدمة ميدان الحبر الملتزم النبيل الذي كان ملحم أحد فرسانه الصامتين الذين لا يُعرَفون إلَّا في "حضرة الغياب".
■ ■ ■

رحل الرفيق ملحم،
هوى غصنٌ أخضر مُزهِر مُثمِر من شجرة معمِّرة اسمها السنديانة الحمراء.