على وقع اتهام المالكين القدامى رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بالمماطلة في توقيع المراسيم التنفيذية لقانون الإيجارت الجديد باعتباره نافذاً، تثابر لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين القدامى على المطالبة بسحب هذا القانون «الأسود» والعودة إلى القانون 160/1992 ضمن «سياسة إسكانية واضحة ترعاها الدولة». المشكلة ليست في حق المالكين بإيجارات عادلة ولا في رغبة المستأجرين البقاء في منازل يعيشون فيها ويرممونها منذ عقود. المشكلة في سوق العقارات، في الشقق الباهظة والإيجارات الجديدة المرتفعة، وفي نزعة الجيل الثاني من المالكين إلى الهدم وعدم الترميم. والمشكلة في عقاريين وشركات كبرى تحاول الاستفادة بطريقة غير مباشرة من زيادة الطلب في سوق العقارات في حال تنفيذ القانون.باستثناء الوسط التجاري وبعض أحياء الأشرفية وفردان، لم تصبح بيروت بكاملها، بعد، عاصمة للأغنياء. لكنّها على وشك أن تصير كذلك. العاصمة لم تطرد فقراءها بشكل كامل، لا في الحرب الأهلية ولا عبر عمليات الفرز الطائفي والديموغرافي السابقة. لكنّها قد تفعلها عبر قانون الإيجارات الجديد. هذا القانون كفيل بالفرز الممنهج في غضون عشر سنوات، لإقصاء ما تبقى من فقراء ومتوسطي حال يتوزّعون على أحياء العاصمة: عين المريسة، رأس بيروت، المصيطبة، ميناء الحصن، المزرعة، الباشورة، زقاق البلاط، المرفأ، الصيفي، الرميل، المدوّر والأشرفية. كما على تشريد المستأجرين في باقي المناطق من الشمال إلى الجنوب والبقاع. أرقام لجان المستأجرين تقدّر عدد هؤلاء بمليون لبناني. «مليون مشرّد» من المناطق اللبنانية كافة، لكل منهم روايته...

هنا الجميزة
لساندرا حكاية أخرى. هي أيضاً مستأجرة تواظب على المشاركة في التحركات ضد قانون الإيجارات. «ورثت» مع شقيقتها منزلاً استأجره أهلها منذ الخمسينيات. يومها «كانت الليرة تحكي وكانت قيمة المأجور 5 آلاف ليرة» تردف. تتأفف من أسعار العقارات المرتفعة «لصالح سوليدير والهيمنة». تصف المنزل بأنه قديم وما كان ليصمد لو لم ترمّمه عائلتها. ترفع اللهجة: «لسنا لاجئين في بيوتنا». تسأل: «كيف أشتري شقة بعد هذا العمر؟». تعرف الجواب وتعرف تماماً أنها لن تتمكن من دفع الزيادة المطلوبة على الإيجار. ساندرا وشقيقتها آخر المستأجرين القدامى في مبنى في الجميزة اشتراه أحد المستأجرين الجدد. تريد «أي منزل في المنطقة نفسها» وترضى بأن تكون مساحته أقل من مساحة منزلها المفترضة: «350 متراً».

هنا الشويفات
علي واحد من أولئك المستأجرين. يفكّر الرجل الستيني بعائلته. ماذا إن طُرد من منزل يستأجره منذ الثمانينيات؟ يحسب مبلغاً يتوجّب عليه دفعه: «4 في المئة من قيمة الشقة، وهذه الأخيرة تساوي اليوم نحو 100 ألف دولار رغم أن عمر المبنى يفوق الأربعين عاماً... 4 آلاف دولار في السنة إذاً». من أين له أن يؤمنها بعدما صُرف من عمله؟ لم يتقاض تعويضاً. ليس له ضمان صحي ولا ضمان شيخوخة. لا مسند رأس له في ضيعة جنوبية كانت تحت الاحتلال الاسرائيلي. يتذكر قيمة الإيجار التي كان يدفعها: «708 ليرات... ليست قليلة!». وقتذاك «كان الحد الأدنى للأجور بحدود 250 ليرة لبنانية»، هذا إن أسعفته الذاكرة. «المالك ليس مظلوماً»، تقرأها في عينيّ علي. في الحرب لم يتوقّف عن دفع الإيجار. المبالغ التي دفعها في الماضي والصيانة التي تكبّدها من جيبه «كافية». هنا تسعفه الذاكرة جيداً.

هنا رأس النبع
دفع مصطفى خلوّاً للمستأجرالسابق. كان ذلك في 1955، وكان يدفع نحو سبعمئة ليرة في السنة. يومذاك كان «الدولار بليرتين والسكن رخيصاً والعمار غير مكلف». يبلغ بدل إيجار منزل مصطفى اليوم نحو سبعمئة ألف ليرة، وهو إلى ارتفاع، في بناية يؤكد أن عمرها مئة عام. «من أين لي أن أدفع ألف دولار في الشهر؟» يسأل ربّ العائلة المكونة من 7 أفراد. يريد مصطفى البقاء في رأس النبع ويريد أيضاً خطة سكنية تسمح له بشراء مأجوره بالتقسيط، إنما بعد تخمينه بشكل دقيق. ذلك أن «المسّاحين الذين يرسلونهم يقيّمون لمصلحة المالك». يتفكّر في الصيانة التي تكبّدها «الله بيعلم كم دفعت، المالك أخذ حق الشقة وزيادة». يتأمّل في مصيره بعد عشر سنوات إن طرد من منزله «ليؤمنوا لنا خيماً محترمة، على الأقل».
القانون كفيل في غضون عشر سنوات بإقصاء ما تبقى من فقراء ومتوسطي حال عن العاصمة


هنا طرابلس
واضحة على وجه محمد إمارات الشقاء. ابن باب التبانة ليس له سوى مناشدة الرئيس سعد الحريري. يريد قانوناً جديداً منصفاً للمستأجرين «لا يرميهم في الشوارع ومعظمهم يفوق الخمسين عاماً». يلخص محمد سيرته مع الإيجار: «في 1984 كان بدل إيجار منزلي يساوي 800 ليرة، الآن أصبح 432 ألف ليرة في السنة. في الماضي كان المنزل يساوي 70 ألف ليرة أو ما يعادل 10 آلاف دولار، أما اليوم فيساوي نحو 70 ألف دولار». يؤكد أنه مع انخفاض سعر صرف الليرة بقي يدفع «المبلغ نفسه». لمحمد أربعة أبناء وهو عامل يومي. لطالما نصح المالك ببيع مأجوره «لكنه رفض لأنه يريد مراكمة البدلات وتشييد مبان جديدة للاستثمار». يطمح محمد العامل اليومي الى البقاء في منزله أو في مسكن بديل لكن في الشمال. «المالك حصل على حقّه. وحق المستأجر في السكن مقدّس» يقول.

هنا انطلياس
ربما تكون آنّي من أصغر المستأجرين في انطلياس. الفتاة العشرينية هي المعيل الوحيد لوالديها في منزل استأجراه منذ أربعين عاماً. كانت للزوجين ظروف منعتهما من شراء منزل، والمالك نفسه لم يكن على استعداد للبيع. تقول إن والديها «كانا يدفعان عن سنة كاملة ما يساوي 1200 دولار بسعر اليوم». الحزن يخيّم هنا. تسأل آنّي «ما هي آخرتنا؟». والفتاة لم تبلغ عتبة الثلاثين! تؤمّن في السنة نحو 300 دولار للمالك الذي «ليست ضده». الأثقال على كتفيها كبيرة: «كيف أسدد ديوني وأؤمن المأكل والمشرب ولا أتقاضى سوى الحد الأدنى. كيف أفكّر بشراء منزل؟». يبدو أن ظروف الأهل نفسها تعاكس الفتاة. خالتها هنا بقربها. تتدخّل الخالة لأنها أيضاً من فئة المستأجرين القدامى، تقول: «كنا نستغني عن شراء رغيف الخبز لكي نصلح حنفية المياه. حافظنا على بيت المالك 40 عاماً. أين صندوق التعويضات الموعود؟ المالكون يدخلون منازلنا عنوة ويصوّرون على هواهم أن المنزل بحال جيدة». والمنزل ليس كذلك.