في حرب تموز، وطّدت نفسي أن أحضر كل جلسات مجلس الوزراء وكل الجلسات الوزارية الملحقة بها. وكذلك الاجتماعات مع السفراء الأجانب ومبعوثي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. ما كان في الإمكان الغياب عن جلسة واحدة من هذه الجلسات، لأن ذلك يعرض الإدارة الحكومية للحرب لخطر محدق، خاصة مع وجود فريق داخل الحكومة يريد أن يحوِّل إدارتها لغير صالح البلاد والمقاومة المدافعة عنها.كان هذا الأمر واضحاً منذ البداية، ولذلك وطدت النفس بالقول: أن هذا الحضور واجب يمليه التكليف ويزيده تضحيات أبطال المقاومة ودماء شهدائها. من الصعب أن يروي الإنسان جملة الأحاسيس التي تنتابه في زمن الحرب وإذا قيّد له أن يكون وزيراً للمقاومة في حكومة كشفت منذ البداية عن موقفها الملتبس من الحرب فإن هذا التكليف يصبح من النوع الذي يوازي السير على الصراط المستقيم.
وطّدت نفسي، أن لا أكتب شعراً في الحرب وأن أترك الأمر إلى ما بعدها، وأن لا أكتب المذكرات اليومية وتركت الأمر أن أكتب في ما بعد رواية سيرية في حرب تموز. قلت يلزم أن أمارس دور وزير حزب الله في زمن الحرب، الدور السياسي المناط بعملية إدارة الفعل السياسي في الحرب، الفعل السياسي وحسب، واستفدت في ذلك كثيراً من تجربتي السابقة، في المقاومة، ومن دراستي للفلسفة، وكذلك من اشتغالي في الصحافة اجتمعت كل هذه الأمور دفعة واحدة. جندي دبّر راسك، تصرف كمقاتل، وقاتل كسياسي حكيم. ولا تنسى أن التاريخ لا يهمل فعلاً ولا قولاً. وأن الصلاة في الحرب يحصل وضوؤها بالدم، على قولة الحلاج...
تمثل إدارة التواصل مع القيادة السياسية في زمن الحرب مهمة أساسية، تقوم على حسن أدائها وحسن إدارة الوضع، ومعرفة كيفيّة التصرف، والمشاركة في تحويل الفعل السياسي إلى قرار.
كان سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله، حفظه الله، قد حدد لي، منذ بداية العمل الوزاري طريقاً للتواصل معه، وكنت أثق أن هذا الطريق آمن وسليم ويصل إلى حيث المراد. وبالفعل، بحثت عن تأمينه في اليومين الأولين للحرب وهذا ما حصل بحمد الله وهي حكاية يأتي ذكرها في فصل آخر من هذه الرواية السيرية.
كنت أرسل لسماحة الأمين العام بريداً يومياً يتضمن مناقشات وأعمال مجلس الوزراء، وقد كتبتها بخط يدي، وهي تعتبر الآن سجلاً رسمياً لأعمال مجلس الوزراء في حزب الله. كتابة تقارير مجلس الوزراء المشار إليها، هي كتابة أمينة، وإذا كان ثمة تسجيلات لأعمال الجلسات وحوارها فإنها تشكل نسخة صادقة عن الأصل، وأعتقد أنه يمكن لكل مؤرخ لحرب تموز أن يعود إليها وقد عاد إليها بعض الأخوة في كتابتهم عن مرحلة الحرب.
تناولت هذه المراسلات كل أعمال مجلس الوزراء والجلسات الوزارية، واللقاءات مع السفراء، وموفدي الأمم المتحدة، وفق الأهمية المعطاة لها ووفق الضرورة وإمكانية إرسالها في الوقت المناسب.
قلت أنني استفدت في كتابة المراسلات من عملي في الصحافة بحيث كنت أضمنها ما يلي:
1) تقرير واقعي عن الجلسة هو صورة لها.
2) صورة عن أجواء الجلسة ما سبقها ورافقها.
3) اقتراحات مقدمة بشأن الموضوعات المطروحة.
4) ملخص للمراسلة تسمح لسماحة الأمين العام بإطلاع مباشر عليه.
هذا من ناحية شكل المراسلة، من ناحية أسلوبها، خاصة في بعض المراسلات الهامة كنت أعرف أنني وسماحة الأمين العام ننتسب إلى مدرسة فكرية واحدة في السياسة وفي العرفان. هي مدرسة الإمام الخميني (قده) وكنت أحدّث نفسي مرات أننا ربما قرأنا في كتاب واحد، ولذلك كان علي أن أحسن الخطاب، وأن أشرح ما أريده باختصار وحسن إفصاح. وطالما أحسست أن لغة الإشارة في بعض المسائل تؤدي لغة العبارة. وهذا ما سوف يأتي تبيانه في ذكر ما حصل في مراسلة تتعلق بالقرار الدولي رقم 1701...
خلال فترة الحرب، غيّرت منازل عدة، جميعها في بيروت الغربيّة. كنت أقيم بالمنزل لفترة محدودة، وأحتفظ به إذا ما قضت الحاجة إليه. وعليه، فقد انتقلت إلى منزل في عين التينة لصديق من الجنسية السورية. كان آمناً في الأيام الأخيرة للحرب، بعدما هدد رئيس الكيان الصهيوني باغتيال وزراء حزب الله في الحكومة اللبنانية، على ما أذكر. وكنت قد أشرت إلى الرد عليه في مقابلة «العربيّة». المهم في الأمر أن المنزل الجديد، صالح من الناحية الأمنية لثلاثة أيام ما كنا لنشغل مقراً لمدة أطول منها.
زارني كل من الأخوة، الحاج وفيق صفا، والحاج ساجد والحاج أ.ط. وكنت أعدّ مراسلة عن القرار 1701 واغتنمت فرصة الزيارة لمساعدتي في إيصال المراسلة إلى سماحة الأمين العام في سرعة مقبولة.
استبقيت الأخوة الأعزاء على الغداء، وأرسلت الأخوة في الحماية لجلب وجبة الغداء، من مطعم في شارع الحمراء، واستأذنت في المدة الفاصلة قبل وصول الغداء لكتابة المراسلة.
كان أمامي أقل من 45 دقيقة هي الوقت اللازم لإحضار الطعام، لكتابة التقرير، وهو وقت لا يسمح بإعادة النظر في الكتابة، بقدر ما يلزمه الحدس والبصيرة للوصول إلى المراد. ذكرت أنني كنت أحسن كتابة الخطاب في المراسلات، وأحدث نفسي أنني قرأت وسماحة السيد في كتاب واحد، وأننا من مشرب واحد على ما يقول أهل الصنعة. ولذلك آثرت أن أستخدم في الخطاب كلمات مفتاحية لشرح النص ذو الطابع القانوني والسياسي والدبلوماسي. وهذه العبارات هي:
1) أسباب النزول (زمن القرار)
2) على سبيل الرواية
3) نص متشابه قابل للتأويل
كتبت في الرسالة فذلكة تتعلق بأمر الموقف من القرار 1701، ترتبط بأسباب القرار وفي زمنه. باعتبار أنه قرار دولي يتعلق في حرب قد كسبنا جولتها في الميدان، وعليه مهما يكون انحياز الدول لصالح العدوان، فإن القرارات الدولية، لا يمكنها أن تنكر حقائق الميدان كما فعلت الحكومة اللبنانية.
إن جوهر القرار هو وقف إطلاق النار في حرب فشل العدو في تحقيق أهدافه بها، وخسرها واقعياً، فيما حققت المقاومة انتصاراً صريحاً، لا يمكن أن تلغيه فقرات قرار دولي، صدر في مرحلة انتصارها في الحرب. وعليه، فإن جوهر القرار هو طلب وقف إطلاق النار في لحظة انتصار المقاومة، وعليه فإن الاستجابة للقرار إنما تحصل من موقع الانتصار والقوة، وتثبت انتصار المقاومة وفشل أهداف العدوان على لبنان.
هذا الأمر يتعلق في زمان القرار ولحظته التاريخية، وأنه جاء نتيجة فشل العدوان وبإلحاح من الطرف الخاسر في الحرب، لأن الحروب ترتبط بزمانها، وقدرة أطرافها على تقديم التضحيات.
من ناحية أخرى، جاء ذكر حزب الله في القرار في محل طلب الموافقة على قرار وقف إطلاق النار، وهو أمر يعطي المقاومة صلاحية الدفاع عن البلاد ضدّ العدوان، باعتراف قرار دولي.
كانت الحكومة اللبنانية قد أبعدت نفسها عن مسؤولية الحرب، الأمر الذي جعل مجلس الأمن يخاطب المقاومة كطرف أساسي في الحرب، يقوم بواجب الدفاع عن البلاد، ويطلب منه بهذه الصفة الموافقة على وقف إطلاق النار، ضمن الشروط التي تؤكد انتصاره، ومنها انسحاب العدو الفوري إلى الخط الأزرق، وعودة النازحين الفورية، ودعوة الدولة اللبنانية لتحمل مسؤولية الأمن، وفق اتفاقية الطائف والمطالبة في الإفراج عن الأسرى من الطرفين، وزيادة أعداد القوة الدولية، والتذكير بحق لبنان في مزارع شبعا، معطوفة على ذكر أسر الجنديين لإطلاق الأسرى كواحدة من أسباب الحرب.
يقسم القرار إلى مجموعة بنود تمهيدية غير ملزمة وإلى بنود تنفيذية. في البنود التمهيدية التي تشبه البناءات في القرارات السياسية، تذكير بأرقام القرارات الدولية ومنها ما نرفضه، وفيها أيضاً ما يرفضه العدو، وعليه فإن هذه البناءات تمهيديّة وغير تنفيذية ملزمة. وهذه الناحية أشرت إليها في رسالتي إلى سماحة الأمين العام بأنها إنما تأتي على سبيل الرواية، وهو تعبير أصول معروف، وتعبير عرفاني كان الإمام الغزالي قد استخدمه في الدفاع عن الحلاج في شرحه صرخة أنا الحق بأنه إنما قالها على سبيل الرواية.
إن البناءات والبنود التمهيدية وما ذكر فيها من قرارات جاءت على سبيل الرواية، ولا يمكن التوقف عندها أو البناء عليها.
في البنود التنفيذية الملزمة، جاء ذكر حزب الله في مكانين بداية الحرب ووقف إطلاق النار، وإذا كان لنا في أمر بداية الحرب حديث مفصل فإن الأهم في المسألة هو مخاطبة حزب الله كطرف رئيسي في الدفاع عن البلاد في حرب إقليمية كبرى.
إن صيغة القرارات المتعلقة بالسلطة والأمن والوجود العسكري في الجنوب اللبناني جاءت وفق ما يلي:
1) التأكيد على وجود الشرعية اللبنانية.
2) عدم ذكر حزب الله في هذا الأمر والاكتفاء بصيغة التأكيد على وجود السلاح الشرعي اللبناني في الجنوب ودعم الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل بالسلاح والعتاد... إلخ.
في هذا النص قدرة صريحة للتأويل، نص متشابه يمكن تأويله، بل هو وجد من أجل تأويله. وهذا أمر معروف في القرارات الدولية على قاعدة الغموض البناء وإمكانية التأويل.
لكن التأويل هنا، يستند إلى قدرة لغة العرب وقواعدها. يتضح تماماً أن النص يجيز وجود المقاومة في الجنوب ولذلك كتبت العبارة التالية في المراسلة.
يطالب القرار بوجود الشرعية اللبنانية وعليه، ماذا لو أصبح سلاح المقاومة شرعياً يا سيدي.
تلك كانت إشارة إمكانية التأويل، وهذا ما حصل بالفعل من خلال إقرار هذه الشرعية في البيانات الوزارية التي تنص على الثلاثية الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة.
إن صلاحية وشرعية الجيش والشعب والمقاومة لا تتعارض والقرار 1701 وهذا ما التفت إليه قبل إبداع هذه الصيغة، بل لعل هذه الصيغة كانت إبداع المشرع في وضع قاعدة مشروعية سلاح المقاومة الذي دافع عن لبنان وحقق الانتصار على العدوان.
ذلك ما تبقى في ذاكرتي من تلك المراسلة: لغة إشارية معتبرة زمن النزول وأسبابه، على سبيل الرواية، إمكانية التأويل وكيف يصبح سلاح المقاومة شرعياً، إنها ولادة واقعية في زمن الحرب للثلاثية الذهبية وحدة الجيش والشعب والمقاومة.
من جعل هذا التأويل ممكناً ومن يفسر القرارات في زمن الحرب على اختلاف مصادرها، هو قوة المجاهدين في الميدان والانتصار في الحرب، ودماء الشهداء، وصمود وتضحيات الشعب، وحكمة القيادة وشجاعتها، إن رجال الله هم الغالبون.