ليس خافياً على أحد أن حزب الله استثمر معادلة الردع التي كرسها خلال حرب تموز 2006، لصالح تطوير قدراته العسكرية والصاروخية طيلة السنوات الماضية... وهكذا تحولت فترة الهدوء، وهي قياسية (12 سنة) في تاريخ الصراع اللبناني الإسرائيلي، إلى فرصة لتطوير قدراته التي تعزّز قدرة الدفاع والرد والردع في مواجهة أيّ عدوان إسرائيلي محتمل ضد لبنان.لم يثبت أن أحداً في الكيان الاسرائيلي، وربما في لبنان وخارجهما، كان يتوقع، أو يرجّح، فضلاً عن أن يجزم، أنه سيمرّ 12 عاماً من دون حرب إسرائيلية إضافية على لبنان وحزب الله. ليس لأنّ اسرائيل دولة عدوانية فقط، بل لأن الأهداف التي عجزت عن تحقيقها خلال حرب 2006، وصادق عليها المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر، بناء على اقتراح الجيش في حينه (أودي ديكل/ مدير معهد أبحاث الأمن القومي/ 2016)، كانت وما زالت طوال السنوات التي مضت، مطلباً ملحّاً، أميركيا وإسرائيلياً، بدءاً من «سحق» حزب الله، أو على الأقل إضعافه إلى أقصى حد ممكن، وتعزيز مكانة إسرائيل الاستراتيجية في مواجهة الجبهة الشمالية... وصولاً إلى تمهيد الطريق أمام فرض الهيمنة الأميركية على لبنان والمنطقة.
مرّت كل تلك السنوات حتى أضحت المؤسستان السياسية والأمنية في تل أبيب أكثر قناعة من أيّ وقت مضى بأنّ أيّ حرب إسرائيلية على لبنان باتت أكثر تعقيداً وكلفة. وبات حزب الله ــــ من منظور إسرائيلي ــــ قوة إقليمية تشكّل تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي، وتمتد ظلال قدرته الردعية من بيروت إلى طهران.
بات حزب الله قوة إقليمية «تشكل تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي»


في المقابل، كان يُفترض بحسب العقيدة العسكرية الإسرائيلية، قطع الطريق على حزب الله في بناء وتطوير قدراته قبل أن تبلغ ما بلغته حتى الآن، مع كل ما ترتّب على ذلك من معادلات إقليمية، عبر شنّ ضربات وقائية واستباقية. هذه الإشكالية كانت حاضرة منذ انتهاء الحرب، وقد عبّر عنها بشكل صريح ومبكر، رئيس أركان الجيش الحالي، غادي ايزنكوت، عندما كان يتولى قيادة المنطقة الشمالية، وذلك في مقابلة مع «يديعوت أحرونوت» (3/10/2008)، «نواجه صعوبة في ردع حزب الله عن تعظيم قدرته، إنّ ما نواجهه في الحدود الشمالية هو محور يتألف من إيران وسوريا وحزب الله، ولا نملك كابحاً له»، ولفت في المقابلة نفسها إلى أن «فرضية العمل» في الجيش الإسرائيلي في حينه هي أن «الاحتمالات كبيرة لاندلاع جولة أخرى».
مع ذلك، بذلت إسرائيل جهوداً عديدة في حينه لقطع الطريق على المسار التصاعدي لحزب الله، فاعتمدت سياسة حافة الهاوية مع سوريا والرئيس بشار الأسد وحزب الله، تهديداً وتهويلاً، وكذلك عبر سياسة احتواء عربية وإقليمية تهدف إلى إغراء الرئيس الأسد لسحب سوريا من موقعها في محور المقاومة.. لكن بعد فشل كل تلك المساعي، انفجرت الأحداث في سوريا في آذار 2011، وهدفت في بعدها الإقليمي ــــ الدولي إلى إسقاط سوريا كنقطة ارتكاز في هذا المحور، من خلال إسقاط نظامها وعلى رأسه الأسد.
إذا ما تمّ استثناء الأشهر الأولى من الأحداث السورية عندما كان الرهان الإسرائيلي في ذروته على نجاح مخطّط إسقاط النظام السوري ــــ الأمر الذي كان مرجّحاً في حينه وفق تقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ــــ كان يُفترض أن تشكّل الحرب السورية، ظرفاً مثالياً للانقضاض على حزب الله في لبنان، الذي لعب دوراً محورياً في مواجهة التمدّد الإرهابي والتكفيري الذي كان يشكل تهديداً وجودياً على لبنان والمنطقة.

المعركة بين الحروب
مع ذلك، لم تجرؤ إسرائيل طوال السنوات السبع الماضية من عمر الأزمة السورية، على الانقضاض على المقاومة في لبنان، بل لم تبادر إلى ما دون ذلك، بما فيه توسيع نطاق الاستهداف العسكري المباشر والمتقطع (المعركة بين الحروب)، من سوريا إلى لبنان. ومع أن إسرائيل حاولت ذلك (اعتداء جنتا نموذجاً مطلع عام 2014)، لكن رسائل حزب الله الردعية ــــ العملانية (الردّ في مزارع شبعا على عملية جنتا) والمواقف الحازمة (التهديد بردود دراماتيكية) التي صدرت عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ردعتها، بعدما اكتشفت أن ذلك سيؤدي إلى التدحرج نحو مواجهة واسعة، ستصيب نيرانها جبهتها الداخلية.
لكن جذور هذه المعادلة التي وفرت مظلة استراتيجية ردعية حمت لبنان، وضبطت حركة الصراع مع إسرائيل تعود إلى نتائج حرب عام 2006، التي كانت تحضر كسابقة يُبنى عليها، لدى دراسة أيّ خيار عدواني. وما يعزّز هذا المفهوم، أنه مهما بلغ تراكم قدرات حزب الله، لم يكن ذلك ليردع إسرائيل من دون أن يكتشف صانع القرار السياسي والأمني الإسرائيلي، وبالتجربة العملية، أنّه لا يملك القدرة على اجتثاث التهديد العسكري والصاروخي لحزب الله، لا بخيارات وقائية ولا استباقية.
بعبارة أدق، إن تعاظم قدرات حزب الله، والحضور الشجاع لقيادته في تفعيل هذه القدرات إذا ما اقتضت الحاجة، ما كانت لتحقّق مفعولها الردعي من دون أن تقترن بكيّ وعي صنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وصولاً إلى إدراكهم محدودية فعالية خياراتهم العسكرية، في مواجهة حزب الله، وهو ما تحقّق في ضوء الانتصار الاستراتيجي والتاريخي لحزب الله عام 2006.
وبتعبير آخر أيضاً، كان ينبغي على إسرائيل أن تدرك إلى حد اليأس أنّ أيّ خيار عملاني لن تتمكن بموجبه من حماية جبهتها الداخلية من صواريخ حزب الله، وأنه كلما طال أمد الحرب كلما تزايدت الضغوط العسكرية عليها، وهو ما أجمله غادي ايزنكوت في حينه (بعدما تولى قيادة المنطقة الشمالية)، عندما أقرّ بأن إسرائيل مُنيَت بإخفاقين (في حرب عام 2006) «الأول، عدم تقصير أمد الحرب، والثاني، أن استمرار تساقط الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية استمر طوال 33 يوماً، ولأوسع إطلاق نيران (بالصواريخ) منذ حرب الاستقلال» في إشارة إلى حرب عام 1948.
نبعت حاجة إسرائيل إلى أن تكتشف هذه المحدودية، بالتجربة العمليّة، من أن معادلة الردع المتبادل في مواجهة حزب الله، ليست بين دولتين تتناسبان في قدراتهما ومزاياهما الاستراتيجية، كما قد يكون قائماً بين العديد من القوى الإقليمية والدولية. وإنما بين كيان إقليميّ يحظى بدعم مطلق من الدولة العظمى في العالم، الولايات المتحدة، ويملك قدرات عظمى على المستويين العسكري والتكنولوجي، وحركة مقاومة. وهذا ما لا مثيل له على الإطلاق في أيّ بقعة جغرافية من العالم.

الردع بالتراكم
أيضاً، إنّ حجم الهوة بين إسرائيل ولبنان، على المستوى الاستراتيجي بأبعاده الجغرافية والديمغرافية والإمكانات، تجعل من مجرد افتراض معادلة كهذه، يبدو للوهلة الأولى، كما لو أنه من نسج الأوهام. وبالتالي، لم تكن إسرائيل لتسلّم به، بالاستناد إلى حسابات عددية لقدرات حزب الله ومزاياها. وما كانت لتتكيف معه، إلا بعدما تكتشف بالتجربة العملية، فشلها وعجزها عن اجتثاث التهديد الذي تمثله في جبهتها الداخلية، (الردع بالتراكم)، وهو ما حصل في عام 2006.
على وقع صدمة نتائجها العسكرية والردعية، أطلقت اسرائيل منذ ما بعد توقف الحرب، ورشة بناء وتعزيز جهوزيتها العسكرية الهجومية، ومعها جبهتها الداخلية، على أمل أن تتمكن في محطة ما، من تحقيق ما عجزت عنه قبل 12 عاماً، ومن إعادة إنتاج معادلات إقليمية جديدة. لكن بعد مضي هذه السنوات، اتضح بشكل عملي، بأن حزب الله استثمر أيضاً معادلة الردع التي أنتجها وعززها خلال حرب عام 2006، لصالح تطوير قدراته العسكرية والصاروخية... وهكذا تحولت إطالة فترة الهدوء الأمني مع لبنان، إلى جانب كونه بذاته مطلباً وهدفاً استراتيجياً لحزب الله، إلى فرصة أيضاً لتطوير قدراته التي تعزز قدرة الدفاع والرد والردع في مواجهة أيّ عدوان إسرائيلي مفترض على لبنان.
وهكذا، تبلور واقع مركب، إسرائيل من جهتها، باتت أكثر قدرة وتطوّراً وجهوزية لأيّ حرب لاحقة. وحزب الله، من منظور إسرائيلي، بات قوة إقليمية، تشكل تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي. وبالنتيجة، إسرائيل أكثر جهوزية لكن في مواجهة حزب الله 2006، وليس حزب الله 2018. والنتيجة التي ترتبت على ذلك، أنه مع كل خيار عدوان عسكري واسع، يُطرح على طاولة المؤسستين الأمنية والسياسية في تل أبيب بفعل تطور سياسي أو أمني ما، كانت تحضر نتائج حرب عام 2006، مضروبةً بأضعاف، ما يؤدي إلى الانكفاء والتراجع.
بعد 12 عاماً، بات بالإمكان القول من موقع اليقين، وليس الفرضية التي تحتاج إلى إثبات، أن إبداع حزب الله، الاستراتيجي والتاريخي، أكثر ما تجسَّد هو في فرض معادلة ردع حمت لبنان في أخطر الظروف التاريخية، وهي بالمقارنة بين ظروف لبنان والكيان الإسرائيلي، الإقليمية والدولية والاستراتيجية، كانت معادلة أقرب إلى الخيال.



نصرالله: ليست قصة قواعد اشتباك بل قصة ردع
شنّت طائرات حربية إسرائيلية ليل الرابع والعشرين من شباط 2014 غارتين على جرود بلدة جنتا الحدودية عند السلسلة الشرقية. في الرابع عشر من آذار 2014، تعرضت دورية إسرائيلية لهجوم بعبوة ناسفة في مزارع شبعا، ولم يصدر عن الحزب أيّ بيان رسمي يعلن تبني العملية.
على مدى عشرين يوماً (بين الغارة والرد)، كان التقدير في إسرائيل أن «حزب الله لن يرد، بل لن يعلن شيئاً عن الغارة، وسيتقيد بنظرية الإنكار»؛ «لماذا بلع حزب الله لسانه؟»؛ «من المرجح هنا أن يقدم حزب الله على لعق الجرح وبلع الضربة وأن يصمت»؛ هذه بعض التعليقات الإسرائيلية في أعقاب غارة جنتا.
في التاسع من نيسان 2014، كشف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في حوار مع «السفير» أن عبوة مزارع شبعا «هي من عمل المقاومة»، وقال إنها جزء من الرد على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت أحد مواقع المقاومة في منطقة جنتا الحدودية. ورأى أن الإسرائيلي «فهم الرسالة جيداً... فالقصة هنا ليست قصة قواعد اشتباك، وإنما قصة ردع».