في السابق، قام مصرف لبنان بمساعدة المصارف على تغطية خسائر التدني في سعر اليوروبوندز. ربما كان هذا هو الهدف الأساس من الهندسات الأخيرة. في البدء، اشترى كل سندات اليوروبوندز التي أصدرتها الدولة اللبنانية. لاحقاً، أطفأ مقابلها سندات خزينة بالليرة، ثم عرض على المصارف أن تشتري منه سندات اليوروبوندز مقابل إطفاء شهادات الإيداع التي تستحق خلال فترة قريبة. وافقت المصارف. هذه العملية ستوفّر لها سندات إضافية تتيح لها القيام بأمرين:أولاً، الاستدانة من الأسواق العالمية بالدولار. ما يعني أنها ستجذب المزيد من الدولارات إلى النظام المصرفي الذي بات يعمل على مدار الساعة لجذب هذه الدولارات مقابل عائدات مجزية للمصارف، إذ يمكنها أن تستفيد من هندسات مصرف لبنان التي تربّحها ما لا يقلّ عن 12 في المئة إلى جانب العائدات على سندات اليوروبوندز التي تتجاوز 7 في المئة. فائدة إجمالية بمعدل 19 في المئة ليست ربحاً عادياً، بل أكثر إفادة من أي استثمار أو توظيف للأموال.
ثانيا، توفّر سندات اليوروبوندز الإضافية، القدرة للمصارف على مواجهة خسائرها في الأسواق العالمية. ففي الأشهر الماضية كانت سندات اليوروبوندز تتقلب كثيراً وأخذت مساراً انحدارياً طويلاً. وبما أن المصارف التي تقوم بعمليات تجارة بالسندات السيادية، كانت قد رهنت جزءاً من محفظة سندات اليوروبوندز التي اشترتها من وزارة المال أو من مصرف لبنان، مقابل استدانة ما بين 50 في المئة و70 في المئة من قيمتها بالدولار، ثم وظّفت هذه الأموال في هندسات مصرف لبنان، فإن انخفاض أسعار اليوروبوندز رتّب عليها خسائر في التدني وجب عليها تغطيتها، أما بالأموال النقدية المباشرة، أو بضخّ المزيد من السندات المرهونة لتصبح قيمة الدين موازية لقيمة الضمانة بحسب أسعارها الأخيرة.
لم يكن أحد يعرف إلى أي مدى ستبقى الأسعار على مسارها الانحداري. المشكلة أن هذا المسار لم يتوقف بعد. سعر سندات اليوروبوندز وقت الإصدار كان يبلغ 100 دولار، لكنه انخفض إلى أقل من 75 دولاراً. أسعار شرائح السندات متشابهة وقت الإصدار لكنها تختلف بعد وضعها في التداول. على سبيل المثال، إن شريحة سندات اليوروبوندز التي تستحق في 2037 أصدرت بـ100 دولار لكل سند، لكن سعر السند أمس وصل إلى 74 دولاراً. شريحة سندات اليوروبوندز التي تستحق في 2028 أصدرت بـ100 دولار أيضاً لكل سند، لكن سعره بلغ أمس 76 دولاراً، وسعر شريحة السندات التي تستحق في 2035 وصل إلى 74.5 دولار... لائحة الشرائح طويلة، لكن المشترك بينها تدنّي أسعارها إلى مستويات مقلقة.
اليوم يدور كباش بين المصارف ومصرف لبنان على تغطية الخسائر الإضافية


إذاً، على المصارف أن تغطّي خسائر التدني في السعر. بحسب مصادر مطلعة، فإن هناك ما لا يقلّ عن 7 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف في محفظتها مرهونة مقابل ديون بالدولار بما يتراوح بين 50 في المئة و70 في المئة من قيمتها (60 في المئة وسطياً)، أي ما يعادل 4.2 مليار دولار. وبما أن قيمة التدني في الأسعار بلغت في المتوسط 25 في المئة، ما يعني أن الخسائر المترتبة على حاملي السندات تصل إلى مليار دولار. هذا النوع من الخسائر يرتّب على المصارف، تبعاً لتطبيق المعيار المحاسبي (IFRS9) أعباء كبيرة. على المصارف أن تصرّح عن الخسائر في موازنتها السنوية، أو عليها ان تأخذ مقابل هذه السندات المرهونة مؤونات تقتطعها من أرباحها.
لعلّ غالبية المصارف فضّلت في مطلع هذه السنة أن تصرّح عن الخسائر في موازنتها السنوية وأن تخفف من المؤونات التي تقتطعها من الأرباح. إلا أنه مع المسار الانحداري للمصارف، بدأت المشكلة تكبر. يومذاك، تدخّل مصرف لبنان لإنقاذ المصارف من بعض هذه الخسائر ومنحها من السندات ما يعوّض لها بعض الخسائر وركّب لها «حركة» بيع وشراء واستبدال تربّحها بدلاً من تكبيدها الخسائر. لعبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لا تنحصر بتربيح المصارف، بل كان يقلق من أن تتم تغطية الخسائر من سيولة المصارف بالدولار. هذا يعني أنه على المصارف أن ترسل بعض دولاراتها إلى الخارج ما يؤدي إلى زيادة عجز ميزان المدفوعات. وإذا كانت لدى المصارف سيولة خارجية، فكان عليه أن يستقطبها إلى لبنان لا أن تذهب لتغطية الخسائر.
في كلا الحالتين، يخسر مصرف لبنان. خروج الدولارات من لبنان يعني حصول عجز إضافي في ميزان المدفوعات الذي عاني وتلاعب بالأرقام من أجل تحسينه ولو قليلاً ومرحلياً. تخصيص السيولة الخارجية لتغطية الخسائر يقضي على أي فرصة لاجتذاب هذه الدولارات إلى لبنان.
اليوم يدور كباش بين المصارف ومصرف لبنان على تغطية الخسائر الإضافية الناتجة من تراجع أسعار سندات اليوروبوندز. قيمة الخسائر غير المغطاة من أصل مجمل الخسائر، قد تصل إلى 500 مليون دولار. مصرف لبنان يرفض التدخل حتى الآن. المصارف ترفض أيضاً القيام بأي خطوة. كلاهما ينتظر تدخّل الأكثر وجعاً من لعبة عضّ الأصابع بينهما. المصارف تراهن على تدخّل ما في اللحظة الأخيرة. ومصرف لبنان يسعى للضغط على المصارف لتعمل ما بوسعها لاجتذاب المزيد من الدولارات. المزيد من الدولارات يعني أن النظام سيصمد أكثر. العكس يقرّبنا أكثر من الأسوأ. تقول المصارف إن سيولتها الخارجية تتجاوز خسائر التدني في الأسعار، فيما المصارف ترى في سيولتها الخارجية بوليصة تأمين في مواجهة الأزمات المقبلة أياً يكن شكلها.
في الواقع، إن أحد أهم مؤشرات هذه الأزمة، أنها ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى ارتفاع في أسعار الفائدة على الدولار. بعض المصارف بدأ أصلاً يدفع فوائد أعلى من غيرها وصلت إلى 9 في المئة. هذا هو الحدّ الأدنى الفعلي لأسعار الفائدة على الدولار اليوم وهو المؤشّر على تطورات الأزمة.