بعدما تجاوزت، مع الرئيس تمام سلام، مدة تأليف حكومة 11 شهراً، بات في وسع أي رئيس مكلف ــــ ومنهم الرئيس سعد الحريري ــــ لم يتجاوز عتبة هذا الرقم القياسي، القول إن الوقت لا يزال «مبكراً» لإنجاز مهمته. بانقضاء الشهر الاول على تكليفه، الاحد الفائت، يتصرّف الحريري كأنه في اليوم الاول، ويتعامل معه على نحو مختلف عن أسلافه منذ اتفاق الدوحة. لا يقتصر على إهمال عامل الوقت في التأليف، بل يطاوله الى تجزئة الاستحقاق الى مراحل ثلاث متدرّجة: تحديد الاحجام، توزيع الحقائب، إسقاط الاسماء. يضيف الى الاعراف التي أوجدها اتفاق الدوحة منذ عام 2008، أحدثها، وهو التفاوض مع الكتل على أحجامها قبل التفاوض معها على حقائبها، ومن ثم تسلّم الاسماء التي تقترحها هي ــــ لا رئيس الجمهورية ولا الرئيس المكلف ــــ لتوزيرها. لهذه الغاية، حمل الحريري الى رئيس الجمهورية ميشال عون تصوّرين لتأليف الحكومة في 11 حزيران، ثم في 24 منه. في ما مضى، ما بين عامي 1990 و2004 ــــ وقد يكون بسبب الوجود السوري ونفوذه الطاغي وبدا أول المعنيين بها وحصصه فيها ــــ لم يكن تأليف الحكومات يطول أكثر من أسبوعين. أقصر مدة صار فيها الى تأليف حكومة مذ وُضِع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، ثلاثة ايام مع حكومة الرئيس رشيد الصلح (1992)، وأطولها مدة 14 يوماً مع الحكومة الثالثة للرئيس رفيق الحريري (1996). بينهما توزّعت الحكومات الاخرى الثماني ما بين ثلاثة ايام وتسعة ايام. بعد خروج العامل السوري عام 2005 حتى الوصول الى اتفاق الدوحة، ألّف الرئيس فؤاد السنيورة حكومته الاولى في 20 يوماً. من ثم منذ عام 2008 بدأت سابقة إهدار أشهر طويلة على تأليف الحكومات ترجّحت ما بين 44 يوماً و11 شهراً.
يجري تأليف الحكومات في الوقت الحاضر وفق آليتين دستوريتين متناقضتين:
أولى، هي اتفاق الطائف الذي أُدمِج في الدستور من خلال أصول متبعة في تكليف الرئيس المرشح لتأليف الحكومة، عبر استشارات نيابية ملزمة، وصدور بيان التكليف بعد اطلاع رئيس مجلس النواب على حصيلة الاستشارات تلك.
وثانية، هي اتفاق الدوحة أضحت أعرافاً لا تتزحزح تقول في مراحل التأليف بالاتفاق المسبق مع الكتل الرئيسية الكبرى على «حقوق» هذه في الحقائب، وتوليها هي تسمية وزرائها، مع امتلاكها حق الفيتو في الإصرار على اسم المرشح، وصولاً الى وضع النصاب الموصوف (الثلث +1) بين أيدي هذا الفريق أو ذاك، دونما الاخذ في الاعتبار، بالضرورة نتائج الانتخابات النيابية. ذلك ما افضت اليه اولى حكومات الحريري عام 2009، بإعطائه قوى 8 آذار ــــ رغم إخفاقها في انتزاع الغالبية النيابية من فريقه المنتصر في الانتخابات ــــ الثلث +1.
في صلب ما قامت عليه تسوية الدوحة، انتخاب رئيس «توافقي» للجمهورية لا يمثل اياً من الفريقين، ويكون في الوقت نفسه أضعف منهما على السواء، وحكومة وحدة وطنية تجمع الافرقاء جميعاً، على ان يكون تأليفها توافقياً بين الكتل الكبرى المشاركة آنذاك في وضع الاتفاق، تلك التي اشتبكت على الارض في أحداث 7 ايار: الثنائي الشيعي وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي. من خلال تحالفه مع حزب الله، حجز التيار الوطني الحر لنفسه مقعداً في المعادلة الرباعية وبات صاحب فيتو اختبر الحريري بالذات قوته وفاعليته، حينما تأخر تأليف حكومته 135 يوماً بسبب اصرار رئيس التيار حينذاك الرئيس ميشال عون على حقيبة الاتصالات لصهره الوزير جبران باسيل، قبل أن يوافق على إبدالها بحقيبة الطاقة والمياه ومنح تلك لوزير رشحه هو شربل نحاس. عزا الحريري رفضه يومذاك توزير باسيل الى خسارة الأخير الانتخابات النيابية.
تبدو اليوم المشكلة في الظاهر كأنها تتقاطع، الى حد، مع ما حدث في حكومة 2009. يُدعى الحريري مجدّداً الى السرايا بعد ثانية انتخابات نيابية عامة تجري منذ ذلك العام هي انتخابات 2018. مواصفات التأليف نفسها: حكومة وحدة وطنية يشارك الجميع فيها، على أن تبصر النور بتوافق هؤلاء عليها. على غرار حكومة 2009 بتجاهلها نتائج الانتخابات النيابية عامذاك، من غير المؤكد أن حكومة 2018 ستعبّر بالفعل عن نتائج انتخابات العام، مقدار ما ستمثّل مرة اخرى وفعلياً موازين القوى الاكثر تأثيراً على ارض ما بعد انتخابات ايار.
بيد أن أكثر من فارق جوهري يقيم في الاستحقاق الحالي:
أولها، أن الحريري لم يعد الزعيم الأوحد للسنّة، ما يزعزع في مقدرته على التفاوض مع الشركاء الآخرين وفرض الشروط.
ترجح تأليف حكومات ما قبل اتفاق الدوحة ما بين 3 أيام و14 يوماً


ثانيها، أن الرجل ــــ وإن يكن الشريك الدستوري الوحيد لرئيس الجمهورية في التأليف ــــ ليس كذلك في الواقع، في ظل تنامي تأثير الكتل الرئيسية التي باتت تتوازن في امتلاك الفيتو. مقدار ما يمتلك تكتل لبنان القوي بنوابه الـ29 فيتو لا يُرد، يمتلك تكتل النائب السابق سليمان فرنجيه بنوابه السبعة فيتو مماثلاً. للأول أن يطلب ما يريد في الحكومة الجديدة، الا ان لا حكومة بلا الثاني.
ثالثها، ليس ثمة ما قال به اتفاق الدوحة، وهو رئيس «توافقي» على رأس الدولة. بل للمرة الاولى رئيس للجمهورية حزبي، على غرار الرئيس نبيه برّي رئيساً لمجلس النواب والحريري رئيساً للحكومة. ليس حيادياً، ولا يسعه أن يكون موضوعياً في أدائه. يقف الى جانب حلفائه ويروم انتزاع غالبية حكومية ما بين حصته وحصة حزبه. هو كالرئيس أمين الجميّل (1982) رئيس حزبي وطرف مباشر في النزاع الداخلي يرأس الجمهورية، من دون أن يصير حَكَماً بازاء الآخرين، بل لا يسعه ان يكون. حيث أخفق سلفه في ان يجعل حزبه ــــ كحزب الكتائب ــــ الحزب الحاكم، نجح عون.
لا لبس اليوم في ان التيار الوطني الحر، كحزب او كتكتل نيابي او حكومي، يتصرّف على انه الحزب الحاكم، ولا يبدو الرئيس عون في وارد التمييز بينه وبين حزبه.
رغم هذا التحوّل المهم ما بين عامي 2009 و2018، يُدار تأليف الحكومة بالطاحونة نفسها. وهي ان الكتل الرئيسية هي التي تتولى إدارة الدفة، مضافاً اليها عاملاً رئيسياً جديداً هو وجود رئيس للجمهورية للمرة الاولى، منذ اتفاق الطائف وليس اتفاق الدوحة فحسب ومستقل عن اي عامل خارجي وليس في صورة توافقي، لا يكتفي بالقول إنه يريد حصته في الحكومة الجديدة، بل يضع قيوداً على حصص افرقاء آخرين، ويتحوّل بدوره الى اداة ضغط على الرئيس المكلف، وليس بالضرورة شريكه الفعلي سوى في توقيع المراسيم.