تغيب أسماء أبناء الأمهات اللبنانيات المتزوجات من أجانب عن مراسيم التجنيس التي «تُهرّب» منذ عقود. شأنها شأن أسماء مكتومي القيد الذين ولدوا في لبنان. هؤلاء الذين يقولون إنهم أهل الأرض وناسها وإنهم الأحق بجنسيتها، لا تملك الدولة إحصاء دقيقاً لأعدادهم.
(حسن بليبل)

ربما، لأنّ الدولة التي لم تُحصِ سُكّانها منذ 86 عاما، تستسيغ هواجس «الديمغرافيا»، فلا تلتفت الى من يعاني هو وأبناؤه من ذلّ يومي على الحواجز وأمام أبواب المُستشفيات وفي مراكز العمل. يفتقد هؤلاء شعور الأمان الذي يبعثه اقتناء هوية لبنانية. ويرون أنّ منح الجنسية لمتمولين ورجال أعمال، وإن كان «طبيعياً» في عُرف الدول، إلا ان ذلك لا يعطي الأولوية لغيرهم لأنهم خبروا البلاد وأحبوها كما لم يفعل أولئك.

محمود اسماعيل: غير اللبناني الوحيد في العائلة!
قبل 40 عاماً، وُلد محمود اسماعيل في المصيطبة في بيروت. والده ذو الأصول الكردية وإخوته الذكور الثلاثة شملهم مرسوم التجنيس عام 1994. قبل نشر المرسوم في الجريدة الرسمية، بتسعة أيام، تُوفي والد محمود. «أحبّ إخوتي أن يكونوا مواطنين صالحين حتى من قبل أن يحملوا بطاقات الهوية»، يقول ساخراً. استصدر الأبناء وثيقة وفاة رسمية للوالد و«إعدام لي». لم ينتبه هؤلاء إلى أن محمود كان حينها لا يزال «تحت السنّ»، ويحتاج تالياً إلى وجود والده كي ينال الجنسية عبره. «لو لم يوفّوه رسمياً لأمكنني الحصول على الجنسية»! حتى اليوم، لا يزال يحمل إقامة مجاملة «قيد الدرس» يعمد إلى تجديدها كل ثلاث سنوات، إسوة بأبناء اللبنانيات اللواتي يقومون بتجديد إقاماتهم بما أنهم محرومون بدورهم من حق اكتساب الجنسية اللبنانية. محمود الذي لا يملك جنسية، وحده دون إخوته وأبنائهم وأحفادهم، لم يتزوّج «لأنني لا أريد أن أجني على ابني ليعيش عيشتي». يقول: «أنا قيد الدرس منذ 40 عاماً. لا أعرف إن كانوا سينتهون يوماً من درسي»!

إلهام برجس: موطني بلاد أمي
لا تزال إلهام (26 عاما) تذكر دهشة أستاذها الجامعي يومَ ناقشته في صف الماجستير في كلية الحقوق في خطابه حول حق المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لمولودها بعدما علم أنّها «غير لبنانية». الناشطة والصحافية الحقوقية التي وُلدت من أب سوري، تحفظ تواريخ الإستحقاقات المصيرية في لبنان عن ظهر قلب. تُشارك في التظاهرات الإحتجاجية وتعمل مع بعض المجموعات المنخرطة في العمل السياسي. في الإنتخابات النيابية الأخيرة كانت تتابع مجرياتها كمواطنة يعنيها هذا البلد، «لكنّ عزّ عليي حرماني من حق الإنتخاب»، كما يعزّ عليها أن تكون واحدة من آلاف «الغُرباء» في بلد أمهاتهم، حيث ولدوا وعاشوا وحلموا وعملوا.
والد إلهام الذي توفي قبل أربعة أعوام، كان قد تقدّم بطلب تجنيس عام 1997، وحمل المرسوم الذي صدر حينها اسمه، لكنّه لم يحز توقيع رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي. بعدها، أُقر كثير من مراسيم التجنيس إلّا أنّ أحداً لم يحسم مصير المرسوم العالق الذي يحتاج إلى توقيع من رئيس الجمهورية. تقول إنّها لن تحزن، بطبيعة الحال، في حال تم إقرار المرسوم، رغم أن الكثير من حقوقها المدنية سيبقى مُعلّقاً إلى حين مُضي 10 سنوات على تجنيسها. رغم ذلك، لا تخفي استياءها من «فكرة منحي ما هو حقّ لي. الجنسية أكتسبها من أُمي وأبي على حدّ سواء وليست منّة من أحد».

محمد العجمي: نعيش في «سجن يونين»
يقول محمد العجمي (55 عاما) إن والده أورثه أمرين: الفقر وحرمان الجنسية. يقدّر عدد أفراد عائلته المحرومين من الجنسية اللبنانية بنحو 50. لسوء حظّ هؤلاء، لم يُقرّ مرسوم خاص لتجنيس الأشخاص الذين أُلحقت أسماؤهم في ملحق مرسوم التجنيس الصادر عام 1992. مُذذاك ، يعيشون بلا هويّة.
قسّمتنا الجنسية: أبي وثلاثة من إخوتي لبنانيون، وأنا واثنان منهم بلا جنسية

العجمي الذي وُلد في يونين (قضاء بعلبك) وعاش فيها كان «ضحّية جدّي اللبناني» الذي سها عن تسجيل أولاده في الدوائر الرسمية، وباع لاحقاً منزله لتصحيح خطئه، من دون جدوى. «سهوة» جعلت أبناءه وأحفاده جميعاً مكتومي القيد، علماً أن جميع أبناء البلدة يعرفون «الأصول اللبنانية» لهذه العائلة البقاعية أباً عن جد. للعجمي عشرة أبناء: أربع إناث وستة ذكور، وهؤلاء يعملون «نجّاري باطون» و«رزقتهم على قدّهم». الخوف شعور يُلازمه طوال الوقت: خوف من المرض، على مُستقبل أحفاده، وعلى خروج الأبناء والأحفاد خارج حدود بلدتهم البقاعية. يفضّل أن يبقوا حبيسي البلدة «لأنني أخشى عليهم من بهدلة الحواجز»، يقول بغصّة، مُشيراً الى انه «في كل مرة يتم توقيف أحدهم أستدعي مختار البلدة ليُعرّف عنه»!

مخلص الزهران: غريب في وطني
أن تكون قيد الدرس أفضل من أن تكون مكتوم القيد. توصّل مُخلص الزهران (43 عاماً) الى هذه النتيجة بعدما خبِر الحالتين. «هناك السيئ والأسوأ. رغم أنه لا يوجد أسوأ من فقدانك بطاقة هوية البلاد التي وُلدت فيها، إلّا أن شعور القيد المكتوم وعدم الاعتراف بوجودك نهائياً أمر لا يوصف». استغرق الزهران أعواما طويلة كي ينتقل الى خانة قيد الدرس، بعد «نضال» طويل في المحاكم، ليؤمّن بطاقات له ولأبنائه الثلاثة. لم يعمد والده بعد اقترانه بوالدته خلال الحرب الأهلية الى تسجيل الزواج الذي أثمر ستة أبناء. عام 1994، ثبّت الوالد زواجه وتقدّم بطلب تجنيس، فشمله المرسوم الذي صدر عام 1994 مع ثلاثة من أبنائه القاصرين، فيما حُرم مُخلص وأخواه الآخران من الجنسية بسبب بلوغهم سنّ الرشد وحاجتهم الى «فتح محاكمات خاصة بنا». يقول: «قسّمتنا الجنسية: أبي وثلاثة من إخوتي باتوا لبنانيين، وأنا واثنان منهم بلا جنسية». يعمل مُخلص في «منشار» للرخام منذ نحو 24 عاما، من دون تغطية صحية او أي من الحقوق «البديهية». خوفه الأكبر على مصير ابنه: «العام المقبل سيقدّم امتحانات رسمية. أخشى أن لا يتم الإعتراف بشهادته. كما أخشى عليه من عدم التوظيف والبهدلة التي ورثتها عن أبي». يبحث منذ عشرين عاما عن وسيلة لتسوية وضعه، «مؤخرا طلب أحد المحامين مني خمسة آلاف دولار لكل بطاقة هوية، أي عشرين ألف دولار. كل ما أجنيه يذهب مصاريف للبيت والأولاد. وحتى لو توافر المبلغ لديّ، أخشى أن أدفع ولا أحصل على شيء». يحزّ في نفسه أن «الغرباء الذي مُنحوا الجنسية اللبنانية أخيراً يملكون أصلاً جنسيات البلاد التي وُلدوا فيها، فيما لا أملك بطاقة هوية بلد ولدت فيه أنا وأبنائي وابي وأجدادي».