ورقة صغيرة، بحجم كف اليد، هي طريق العبور إلى «شبابيك» المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR). تلك الشبابيك صارت كل أمل اللاجئين. يأتونها في الصباح الباكر، علّهم يعودون منها بحصّة غذائية أو «بشرى» من دولةٍ ما قد تعفيهم من فقر اللجوء. هناك، عند عتبة باب المفوضية، يرصف هؤلاء فقرهم في الطابور. المشهد لم يتغيّر منذ عشرات السنين. وكلما اشتعلت بلاد، يكبُر الطابور أكثر. لا تعود نهايته مرئية. يمتلئ الطابور قبل أن يبدأ دوام موظفي «الأمم». كل من المنتظرين يحمل رقماً. هناك، ينادي الموظفون على اللاجئين بالأرقام كي يدخلوا. لا أسماء لهم. هم بالأساس نسوا أسماءهم عندما صاروا يحملون «كارتاً» أممياً. يستعجلون صباحهم كي «يكسبوا» مكاناً متقدّماً في الطابور. بعضهم يأتي مدثّراً بنعاسه، وآخرون يحملون أولادهم... وتعبهم. لا همّ كم سينتظرون. المهم ما سيعودون به من تلك الشبابيك التي تقسّمها المفوّضية، حسب أنواع الطلبات المقدّمة.

بالأرقام

1006927
لاجئاً في لبنان

986942
لاجئاً سورياً

16662
لاجئاً عراقياً

3323
لاجئاً من جنسيات أخرى

11000
لاجئ سوري غادروا لبنان عام 2017


يختصر الطابور صور الفقراء فيه. لا يفرغ من ناسه، فكلما أنهى لاجئ مقابلته، حلّ آخر مكانه. لا ينتهي الطابور. ينفرط في آخر الدوام ويعود مكتملاً مع الصباح التالي. غالباً، ما يعود هؤلاء خالي الوفاض. الجواب واحد: لا مساعدات. لم يعد «الكارت الأحمر» (الذي يعطى لمن يستحقون المساعدة) يجدي نفعاً. ثمة لاجئون لم ينالوا مساعدة واحدة منذ ثلاث سنوات وأكثر، ولكن يبقى الأمل معلّقاً في تلك الشبابيك. وإن أتت تلك المساعدات، فـ«بالقطّارة»، يقول هؤلاء.
لا يختلف المشهد من صباحٍ إلى آخر. الطابور نفسه. الناس أنفسهم الذين يزاحمون فقرهم. الأوراق نفسها تُعاد في كل يوم. واحد. اثنان. ثلاثة. ألف. ألفان. لا نهاية للأرقام. سيبقى هؤلاء لاجئين عند عتبة المفوضية. يلاحقون فرجاً لا يبدو أنه آتٍ. أما، من هم خلف تلك العتبة، فلا أجوبة تأتي من صوبهم، سوى عبارة واحدة تتكرر مع كل داخل إلى هناك: عودوا الشهر المقبل أو بعد ستة أشهر.
في حضرة اليوم العالمي للاجئين، لا شيء تغير. لا الطابور ولا الناس. وحده «الهاشتاغ» الذي تطلقه الأمم المتّحدة هو ما يتغيّر، والذي يحمل هذا العام عبارة «مع اللاجئين»... والرقم الذي سيضيف إلى لائحة اللجوء فقراء جدداً. وفي ما يخصّ الرقم الأخير، تشير آخر دراسة ميدانية عن أوضاع اللاجئين في لبنان، السوريون منهم تحديداً، إلى ارتفاع نسبة العائلات التي تعيش تحت «خط الفقر اللبناني البالغ 3,84 دولارات للفرد في اليوم الواحد» إلى 76%، فيما بلغت نسبة العائلات الواقعة تحت وطأة الديون 87%، بحسب تقرير «تقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان». هذا الخط الذي صار تحته أيضاً 9 من أصل كل 10 عائلات يضطرون لخفض كمية الطعام كي يتمكنوا من تسديد تكاليف أساسية أخرى. إلى هؤلاء، يضاف لاجئون كثر من السودان والعراق وأثيوبيا وبنغلادش، يختبرون هم أيضاً في كل يوم تعب الوقوف في طابور الأمم. هنا، في هذا الطابور، مخزن قصص الذي يعيشون على لائحة انتظارٍ طويلة. منه، هذه القصص الثلاث.

شباك رقم 7
ثلاث سنوات أمام باب مفوضية شؤون اللاجئين، لم تأت لريما إلا بـ300 دولار أميركي، بدل إيجار منزل. بعدها، لم يصل شيء. هذا كل ما استطاعت الحصول عليه ريما، من «الكارت الأحمر» الذي تحمله. منذ ذلك الوقت، تصرف الأم لخمسة أطفالٍ ما تجنيه ابنتها من بيع المحارم بدل إيجار السيارة الباص العمومي الذي تأتي به من أطراف مخيّم صبرا لللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية. ثلاث سنواتٍ وقفت فيها ريما في الطابور. تحمل الكارت، قاصدة شباك رقم 7، حيث تسأل عن المساعدات الغذائية والسكن (...). حفظت وجوه الذين عبروا خلف ذلك الشباك، ولم تأتها المساعدة. لكنها، لا تجد نفسها خارج الطابور. هي هنا، وزوجها تحت الجسر المقابل للمخيم ينتظر رزقه في «ورشة عمار» أو «عتالة».
لجأت ريما قبل أربعة أعوامٍ إلى لبنان، بعدما اشتدّت الحرب في دير الزور. لم تحمل شيئاً معها باستثناء الأوراق الثبوتية وأطفالها. عرفت في ما بعد أن منزلها في الدير دُمّر. عقب الوصول إلى لبنان، كان الهم تأمين المسكن وتقديم طلب لجوء إلى مفوضية شؤون اللاجئين. وُجد البيت، ولكن من أين تأتي العائلة بـ250 دولاراً؟ كان الرهان هو «الأمم»، ولكنها «كانت مرة واحدة»، ثم انتهى كل شيء. اليوم، تجبر ابنتيها على العمل في بيع المحارم والوالد تحت الجسر لتأمين إيجار البيت. وما يفيض ــــ إن فاض ــــ فلتأمين «ربطة خبز كي أطعم أطفالي». لريما خمسة أطفال: بنتان و3 صبيان. تركت البنتان المدرسة باكراً لمساعدة العائلة، فيما الصبيان الثلاث «تُرّكوا» المدرسة هذا العام «لأنهم كبروا ع عمر الدرس»، تقول ريما ما أخبرها به مدير المدرسة. عامان إضافيان، يلتحق الصبيان بسوق العمل. فيما تبقى ريما في انتظارها أمام الأمم.

عشرون عاماً ونيّف
عام 2006، توّج أدهم قصة الحب التي عاشها بالزواج. فعل ذلك بعد ثماني سنواتٍ من اللجوء، هارباً من السودان. عندما أتى إلى لبنان، لم يكن يعرف بأن لجوءه سيتخطى العام العشرين. كان في باله أنها سنوات قليلة ويرحل بعدها إلى بلد أوروبي. لكن، لم يحصل شيء من ذلك، فمنذ العام 1998، يعيش في لبنان... وعند باب المفوضية التي لم يحصل منها على أي مساعدة. لكن، لم الإصرار على الوقوف في الطابور؟ يقول «شايل أمل». علماً أنه في كل مرة يقصد الشبّاك المخصص، يأتيه الجواب «سنرفع الشكوى».
أمس، أحضر أدهم ابنته صفيه معه إلى المفوضية. اشترى لها كعكة تمرٍ وعلبة عصير وعاد إلى الطابور. صفية لا تعرف السودان ولا أثيوبيا، بلد أمها. تعرف «الأمم جيداً»، يقول أدهم ضاحكاً. لكن، من دون جدوى.

لا ينتهي الطابور. ينفرط في آخر الدوام ويعود مكتملاً مع الصباح التالي في انتظار فرج لا يبدو آتياً


منذ عام، يجري أدهم مقابلات في المفوضية من أجل السفر، من دون أن يعرف وجهة السفر. مع ذلك، «لا يهم إلى أين، المهم بدنا نعيش». إلى حين يأتي هذا اليوم الموعود، يكمل أدهم عمله في إحدى شركات التنظيف، كي يسدّد أكلاف معيشته والديون التي تراكمت عليه لمدرسة ابنته.

الموصل آخر المنافي
في آخر الحلول لفقرها، لم تجد نوال سوى ترحيل ابنها مع عمّته إلى الأردن. نوال، التي هربت من الموصل إلى بغداد ثم إلى لبنان عام 2005، لم تجد ما تفعله سوى إبعاد ابنها، بعد يأسها من الرحلات شبه اليومية إلى المفوضية. عندما لجأت إلى لبنان، سكنت نوال ــــ ولا تزال إلى اليوم ـــ في غرفة يتيمة في مبنى قديم في منطقة السوديكو. تدفع لقاء تلك الغرفة 250 ألف ليرة لبنانية. في البداية، كانت تحصل على مساعدة بقيمة 200 دولار أميركي من المفوضية. لكن، منذ ثلاث سنوات انقطعت تلك المساعدة قبل أن تعود قبل شهرين بمساعدة أحد الأشخاص. بالكاد، يكفيها المبلغ لتسديد إيجار الغرفة، وما يبقى تحتفظ فيه للأكل. تعاني الأم لشابٍ وشهيد من أمراضٍ مزمنة. حاولت مراراً أن ترفع تقارير الأطباء إلى المفوضية، لكن بلا جدوى. في كثير من الأحيان، تبقى نوال بلا علاج، وإن كانت قد اعتادت هذا الأمر. اليوم، تساعد نوال جيرانها في التنظيف لقاء بدلٍ ضئيل تخبئه لأيام العوز. وهي كثيرة. «ما باليد حيلة»، تقول. ستبقى على ما هي عليه، طالما أن «الموصل صارت آخر المنافي».