يعدّ اعتماد النسبية وإتاحة المجال لغير المقيمين للاقتراع «الإصلاحين» القانونيين الأبرز اللذين شهدتهما الانتخابات النيابية التي أجريت في 6 أيار الفائت. في الشكل، حقق آلاف الناخبين غير المقيمين في لبنان رغبتهم في المشاركة في العملية السياسية واختيار ممثليهم إلى مجلس النواب، إلا أن المضمون الذي تكشف عنه العملية الانتخابية بدءاً من التحضير لها وصولاً إلى نتائجها يشير إلى جملة من الشوائب (أو الانتهاكات؟) التي تجعل عملية الاقتراع هذه غير موثوقة وقابلة للإلغاء من قبل المجلس الدستوري.ونظراً لأهمية هذا الإصلاح، نجد من الضروري الإضاءة على هذه الشوائب بالتفصيل في محاولة لإصلاحها أو لتفاديها في الاستحقاقات المقبلة، ونقسّمها إلى شقين. في الشق الاول نضيء على ما كان يمكن أن يحدثه عدم فقدان 2693 صوتاً من تغييرات في النتائج، وفي الثاني نظهر حجم استفادة (وعدم استفادة) مختلف القوى السياسية من اقتراع غير المقيمين.

ضياع 2693 صوتاً
بلغ عدد المقترعين في الخارج، وفق ما أعلنته وزارة الخارجية عند اغلاق صناديق الاقتراع 49492، وصل منها إلى لبنان 46799 فقط، أي أن 2693 صوتاً ضاعت، ما يمكن أن يغيّرالكثير من النتائج. ففي مقارنة بين أعداد المقترعين بحسب لجان القيد وأعدادهم بحسب وزارة الخارجية، نلاحظ مثلاً ضياع 735 صوتاً في البرازيل، 608 أصوات في كندا، 522 صوتاً في أستراليا، 347 صوتاً في ألمانيا، 110 أصوات في الولايات المتحدة الأميركية. (الجدول كاملاً)
أسباب فقدان هذه الأصوات، التي يصل عددها إلى 2693، يعود لفقدان بعض الطرود التي ضمت محاضر الاقتراع في الخارج، علماً أن نقل هذه الطرود جرى بواسطة شركة تجارية ومن دون مواكبة مندوبي اللوائح والمرشحين.
لذا يمكن الشك بأن يكون حدث إخفاء متعمد بهدف تغيير بعض النتائج، إذ لا توجد دولة ديموقراطية في العالم تنقل أوراق الاقتراع من دون المندوبين. وهذا ما تؤكده نتائج الانتخابات التي نفصلها كما يلي:

في التأثير على النتائج
في دائرة الشمال الثانية (طرابلس ـــــ المنية ـــــ الضنية)، بأقل من 50 صوتاً إضافياً كان يمكن للائحة الكرامة الوطنية الفوز بثلاثة مقاعد بدلاً من اثنين، وللائحة المستقبل الفوز بأربعة مقاعد بدلاً من ثلاثة.
في دائرة الشمال الثالثة (بشرّي ــــ زغرتا ـــــ الكورة ــــــ البترون)، وبأقل من 200 صوت أو بإلغاء اقتراع غير المقيمين، كان يمكن أن يفوز نقولا غصن من تيار المستقبل بدلاً من جورج عطا الله من التيار الوطني الحر. كما كان يمكن أن يفوز فادي كرم من القوات اللبنانية عن مقعد الكورة بدلاً من فادي سعد من الحزب عينه عن مقعد البترون، ما كان سيغير في الكثير من المقاعد (يفوز بطرس حرب بدلاً من فادي سعد، وبيار رفول بدلاً من اسطفان الدويهي). مع الإشارة إلى أن كل هذه التغيرات يمكن أن تحصل من دون التغيير في حصص اللوائح.
في دائرة جبل لبنان الأولى (جبيل ــــ كسروان)، بأقل من 250 صوتاً أو بإلغاء اقتراع غير المقيمين، كان يمكن أن ينتقل مقعد روجيه عازار من التيار الوطني الحر إلى منصور البون المستقل من اللائحة عينها.
في دائرة جبل لبنان الرابعة (عاليه ــــ الشوف)، وبأقل من 350 صوتاً كانت لائحة الوحدة الوطنية تخطت العتبة وفازت بمقعد وخسرت لائحة ضمانة الجبل مقعداً، وفاز وئام وهّاب بدلاً من مروان حماده، وناجي البستاني (لائحة المصالحة) بدلاً من فريد البستاني (لائحة ضمانة الجبل).

تضييع متعمّد؟
بناء عليه يمكن الاستنتاج أن ضياع أو تضييع أكثر من 2600 صوت من أصوات غير المقيمين خلال عملية النقل هو أمر مثير للشك، خصوصاً عندما يتبين أن بعض الأصوات (بين 50 و350) لمصلحة لائحة أو مرشح من أصوات كانت قد غيرت الكثير من النتائج. كما يمكن السؤال: هل يكون البعض قد تعمد التأخير بفرز نتائج غير المقيمين للاطلاع على نتائج فرز أقلام المقيمين لإخفاء ما يمكنه من تغيير بعض النتائج؟
إن إجراء انتخابات نزيهة وشفافة كان يفترض اعتماد ما تعتمده الكثير من الدول حول العالم: تجرى الانتخابات في يوم واحد في لبنان والخارج بفارق توقيت الدول ويتم الفرز في أقلام الاقتراع بحضور المندوبين. أما في حالتنا، فقد كان من العملي والبديهي تقديم محاضر الخارج للجان القيد والبدء بفرزها فور إغلاق أقلام الاقتراع وليس بعدها.

اتجاهات التصويت
ترافق طرح تأمين الحق في الاقتراع لغير المقيمين مع مخاوف سياسية من عدم تمكن جميع الأحزاب من القيام بحملات انتخابية في دول مختلفة حول العالم، ما يمكن أن يؤثر في المساواة بين جميع المرشحين. على رغم ذلك أجريت الانتخابات في الخارج من دون مراعاة هذا الاعتبار، لتكشف النتائج قدرة البعض على استخدام عوامل تأثير في الانتخابات، وعدم قدرة البعض الآخر. نلاحظ، مثلاً، الآتي:
بعض الأحزاب تمكّنت، أكثر من غيرها، من تنظيم حملات تسجيل الناخبين والحملات الانتخابية في الخارج (كالقوات اللبنانية...)؛
الأحزاب الأيديولوجية والمنظمة في الخارج استفادت من اقتراع المغتربين (الطاشناق وجمعية المشاريع...)؛
صورة بعض المرشحين الناشطين إعلامياً انعكست إيجاباً عليهم (بولا يعقوبيان، زياد بارود...)؛
الخطاب السياسي كان ذا تأثير (جميل السيد...)؛
عدم المشاركة في حملات تسجيل الناخبين والحملات الانتخابية لأسباب مادية (المستقلون والأحزاب الصغيرة)؛
عدم المشاركة في حملات تسجيل الناخبين والحملات الانتخابية لأسباب سياسية (حزب الله وحلفاؤه).

المستفيدون من اقتراع الخارج
لمعرفة مَن مِن الأحزاب السياسية كان مستفيداً من عملية الاقتراع في الخارج، اعتمدنا الآلية التالية: بعد حساب الأصوات التي حاز عليها المرشح أو اللائحة من إجمالي المقترعين في لبنان من جهة، وإجمالي المقترعين في الخارج من جهة أخرى، تحسب النسبة المئوية لكل منهما وتجرى المقارنة بين النسب المئوية.
مثال: في دائرة البقاع الثالثة (بعلبك ــ الهرمل) بلغ عدد أوراق الاقتراع المعوّل عليها في لبنان 185506، وحاز مرشح القوات اللبنانية أنطوان حبشي على 14269 صوتاً ما نسبته 7.7 في المئة، فيما بلغ عدد أوراق الاقتراع المعول عليها في الخارج 1563 وحاز المرشح نفسه 589 صوتاً ما نسبته 37.7 في المئة فيكون الفارق بين النسبتين المئويتين 30 نقطة.
حازت لائحة الأمل والوفاء (تحالف حزب الله وحركة أمل والحزب القومي) على 140068 صوتاً في لبنان ما نسبته 75.5 في المئة وعلى 679 صوتاً في الخارج ما نسبته 43.4 في المئة فيكون الفارق (-32.1) نقطة.
الفارق الإيجابي يعني أن المرشح استفاد من تصويت غير المقيمين والفارق السلبي يعني أنه تضرر من تصويتهم.
بناء عليه يمكننا القول إن الأحزاب التي حازت على فارق إيجابي في كلّ الدوائر هي القوات اللبنانية، التيار الوطني الحر، الطاشناق، جمعية المشاريع ولوائح المجتمع المدني. أما التيار الذي كان الفارق السلبي رفيقه في كلّ الدوائر فهو تيار المردة، وتحالف حزب الله وحركة أمل. أما إذا فصلنا طرفي التحالف فنلاحظ أن نتائج حزب الله في الخارج أتت عليه بفارق سلبي في جميع الدوائر باستثناء بيروت، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المستقبل (فارق سلبي في جميع الدوائر باستثناء صيدا)، والحزب السوري القومي الاجتماعي (فارق سلبي في جميع الدوائر باستثناء عكار). في حين غلب الفارق الإيجابي على السلبي بالنسبة لحركة أمل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي (أعطى الحزب توجيهات لمناصريه في الخارج للتصويت تفضيلياً لراجي سعد في عاليه، ونعمة طعمة وبلال عبد الله في الشوف). أما حزب الكتائب، والشخصيات المستقلة، فقد غلب فيها الفارق السلبي على الإيجابي. (الجداول الخاصة بكلّ حزب(