في صِغَرِ كلّ إنسان يحدث شيءٌ ما، فيصبح قَدره أن يدورَ وجوده وتدورَ حياته بكلّ تفصيلٍ منها حول هذه الحادثة بالتحديد في هذه الحياة.أبناء الجنوب عاشوا حدثاً غيّر واقعهم في الخامس والعشرين من أيّار عام ٢٠٠٠، حين أثمرت تضحياتهم، فأزهرت تحريراً نقلهم من القيد الإسرائيلي إلى الحريّة، مُحرِّراً أجسادهم لا أفكارهم، والأهم: أرضهم التي ينتمون إليها منذ الولادة.
هكذا، يكون التحرير هو الدرس الأوّل في حياة كلّ بيتٍ جنوبيّ. درس الحريّة التي تُصبح الفكرة الأولى التي ننقشها في لا وعي أولادِنا كي تصطحبهم مدى الحياة أينما كانوا وأينما ذهبوا، ليعرفوا أنّ المسّ بها هو فعلٌ حرام وأن لا ردّ فعل لديهم غير النضال من أجلها حتى لدى من لم يعايش فترة الاحتلال ولم يكن قد وُلد بعد - ليُصبح تحرير الأرض هو فعلٌ يتنشّقه كلّ جنوبيّ كأساس أوّل في حبّه لوطنه.
وعلى رغم غياب القراءة الموحّدة لتاريخ وطننا، نجح من كانت عينه على الوطن بنقل إرث التحرير إلى الجيل الجديد، محوّلاً هذه الذكرى إلى انتصارٍ جديدٍ نتذوّقه كشعبٍ ونضعه في واجهة تحدّياتنا أمام أصحاب الطموحات اللاإنسانية، أولئك الذين يتعارض منطقهم مع منطق الحريّة والاستقلال، ليروا أنّ هناك جيلاً جديداً ترعرع على خُطى كلّ من استشهد في سبيل الأرض... لنصبح نحن، أبناء الجيل الجديد، أبناء جنوبنا الذي يمتلِكُنا والذي لا مفرّ لنا منه حتى وإن أرَدنا، ولم ولن نَرِدْ. نحن أبناء الأرض الذين تعلّمنا أن لا نسكتَ عن الظُلم وأن لا نخضع، نحمل اليوم راية كلّ من اغتُصِبتْ حقوقهم ونصرخ بأعلى أصواتنا باسم هذه الحريّة التي نعيش بها وتعيش بنا وتكبرُ معنا كلما كبرنا... نرفض كلّ أشكال الاستعباد والاستبداد أينما كانت حتى ولو لم نمضِ وقتاً طويلاً من أعمارنا في الملاجئ كما جرى مع أهلنا، ولكنّنا نعرِفها من حكايات أبائنا وأجدادنا... كبرنا وأصوات الطائرات الحربية فوق منازلنا كلّ صباح لا تُغادر... مُنِعنا من اللعب في أحراجنا خوفاً من قنابلهم العنقودية...
ما زلتُ أسمع صوت أمي وهي تروي لنا عن صوت القصف الذي ما زال حتى اليوم يُرعبها


نحن الجيل الذي عرِف معنى الحق باكراً وعرف معنى الحزن باكراً، حيث تُطالعنا مع كلّ إشراقة شمس وعند كلّ مغيب صور شهدائنا أحياءً كانوا أم أمواتاً. هُدِمتْ بيوتنا، وبعضها لم يعُد كما كان، وبقينا نعشق حجارتها كما هي، حيث لكلّ زاوية فيها تاريخ وقصّة تعوّدنا على سماعها في كلّ ليلةٍ أمضيناها مع أجدادِنا حتى وإن كانت معظم هذه القصص لا علاقة لها بما نعيشه اليوم من فرح ولهو: ما زلتُ أسمع صوت أمي وهي تروي لنا عن صوت القصف الذي ما زال حتى اليوم يُرعبها، وما زال صوت أبي وهو يقُصّ لي عن حالة الحرمان التي قاومها بالفكر، ثم بالحجارة، ثم بالسلاح، كما كلّ أبناء القرية يتردّدُ في كلّ زاوية من زوايا ذاكرتي. كلّ ذلك يجعلُنا اليوم نحنُ أبناء من حفروا بأيديهم الطريق نحو الحريّة، وما زالت آثار الحفر على أياديهم تشهدُ على ذلك كمن يقول لنا: «إن شككتم، أُنظروا، فنحنُ مضت أعمارُنا ونحن نحفر طريق التحرير»...
وها نحن اليوم نقول لهم كفى أيها الأحرار، سنواصل الطريق التي تفوح منها رائحة شهدائنا. رجاءً، أُتركوا لنا القليل من التعب والكثير من العمل لنصون الحريّة ونصون الكرامة واستريحوا، فيكفيكم تضحيات.
ثمانية عشر عاماً مضت على التحرير... ثمانية عشر عاماً ونبض الكفاح، والجِهاد، والنضال لم ولن يهدأ. ما زال الشعار هو هو: نموت كي يحيا الوطن... ما زال هناك الكثيرون يرحلون لنبقى... وما زالت إرادتُنا تكبر مع عشقنا لجنوبنا، لأرضنا، لوطننا... وسيبقى التحرير يُظلّل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا... وسنبقى نحن نحن، متشبّثون بكلّ شبرٍ من تراب الأرض.