تموز ١٩٨٤، كان ذلك صيفنا الأخير في سجد، أو«جوار الغيم» كما كان يحلو لأبي أن يسميها، تلك القرية المكشوفة للشمس والريح في أعالي جبل الريحان. أراد الكولونيل أبراهام حيدو أن يتسلى بمسدسه من فوق قناة للمياه يختفي المقاومون في جوفها. عاجله أحدهم برصاصة بين عينيه. جن جنون «جيش الدفاع» الإسرائيلي، أيام قليلة من أيام القبضة الحديدية تلك، دخلوا قريتنا ومعهم أسعد نصر، المسؤول الأمني للعملاء جمعونا في ساحة القرية وخيرونا بين ثلاثة: تسليم أحد أبرز وجوه المقاومة في جبل الريحان، أو تطويع خمسين عميلاً في جيش لحد، أو النزول عبر جبل الرفيع طرداً من بيوتنا وقريتنا التي حفظنا سماءها غيمة غيمة، وحقولها شجرة شجرة، وضبابها نسمة نسمة. أجابهم أحدنا أن من يتجند عميلاً لا نحسبه رجلاً بيننا، ليتلقى صفعة على وجهه.
أطلقت «رسالات» ملصقات في هذه المناسبة كما في كل عام

جمعونا طوابير قبل أن نجمع أغراضنا الشخصية حتى، وكان كثيرون بثياب النوم، وتدحرجنا على الصخور في «الخلة». نظرنا إلى الخلف نودع بيوتنا التي أطبقت الجرافات على سقوفها، فمعستها كتلك المرطبات التي كنا ندوسها بأرجلنا. بكت جدتي في منتصف الطريق، انفجارات ثلاثة متتالية: «انها قوارير الغاز في المطبخ». نسيت أنا سيارتي الحمراء أيضاً. كانت فرجة لأولاد القرية يتقاطرون لرؤيتها من كل حدب وصوب لأنها تمشي حين نصفق لها، أحضرها لي خالي شمس من الكويت.
مرة أغراني أحدهم بأن أبادلها بالحذاء الرياضي الصيني الذي كان الأولاد يبرون «غلله» بالسكين، بحجة أنه أشبه بنعل من ريح. نزلَت عليا في المساء، وقرب نبعة عربصاليم، وأمام أهلها ممن انتظرونا ليستقبلونا في بيوتهم، سمعنا انفجاراً عظيماً. طارت رجل عليا بلغم ارضي لتستقر في النهر. في الليل دوى انفجار آخر، رق قلب فوزية على الكلب فورد، وضعت في عنقه «انتريك» ليتبعها في التيه، داس فورد على لغم مزقه أي ممزق.
ستة عشر عاماً، أقف مع أخي في كعب نهر الزهراني وننظر إلى الأعلى، تلك التلة المسماة بـ «عرض الأطلب»، وخلفها مرج الحمى، وقربها الغميرة و«خلال زينب» الى كل تلك الأسماء الحسنى لكل شبر من تلك الأرض. كان أخي يضع يده على قلبه وأنا أصفق بيدي، لعل الصدى يصل إلى تلك السيارة الحمراء التي تركتها في القرية التي صارت ثكنة ومنطقة عسكرية بعدما تهدمت بيوتها بالكامل. ستة عشر عاماً ورجال يتسلقون تلك التلة العالية علو ألف ومئتي متر. وفي العام ١٩٨٧ دخلوا مقام النبي سجد في أعلى تلة فيها، كان سمير مطوط وصحبه قد وعدوني ولو لم يلتقوا بي قط.
سافرت الى فرنسا، كنت احتفظ بأي قصاصة من جريدة فيها اسم سجد، أو صورة لدبابة على مفرق مرج الخوخة نشرتها جريدة «الحياة» مرة بعنوان: «دورية للاحتلال اثناء التمشيط في بلدة سجد». ٢٥ أيار ٢٠٠٠، كنت قد بدأت بالدكتوراه وتعذر علي السفر الى لبنان: اتصلت بي أختي عند الظهر. كانت تقف على أطلال بيتنا الذي نبت العشب فوق أحجاره. قالت لي: صفق بيديك. وجدت هيكل السيارة الحمراء وقد نخره الصدأ. كما يقول الصغار: افتح يا سمسم: رددت اسم سناء محيدلي وبلال فحص وسمير مطوط. قالت أختي إن السيارة ارتدت لونها الأحمر واطاراتها المطاطية الصغيرة، ثم نبتت لها أجنحة وطارت اليّ.