ليس أمراً عابراً أن يحاول رئيس التفتيش المركزي جورج عطية، فرض سيطرته على إدارة المناقصات من خلال الادعاء بأنه «الرئيس التسلسلي». خطورة هذه الفكرة أنها تكسر استقلالية هذه الإدارة التي تنفّذ التلزيمات العامة، وأنها تأتي بعد اتفاق سياسي على أن تمرّ كل التلزيمات العامة عبرها، وبعد صفقة معامل توليد الطاقة العائمة التي رفض المدير العام لإدارة المناقصات جان العلية تمريرها. السيطرة على هذه الإدارة من قبل أي طرف سياسي هو بمثابة منح حق احتكاري لفريق في السلطة على المشتريات العامة للدولة.
تحذير الرئيس للمرؤوس!
لم تنته فصول الأزمة بين المدير العام للمناقصات جان العلية ورئيس التفتيش المركزي جورج عطيّة، بل تطورّت إلى حرب صلاحيات يسعى من خلالها عطية إلى إعلان سيطرته على عمل إدارة المناقصات. فقد تلقى العلية أمس، تحذيراً خطياً من عطيّة بصفته «رئيساً تسلسلياً»، يتهمه فيه بالإدلاء بتصريحات صحافية ومقابلات إعلامية من دون الحصول على إذن من الرئيس التسلسلي خلافاً لأحكام الفقرة 2 من المادة 5 من المرسوم الاشتراعي 112/59 (نظام الموظفين). ويلمح عطيّة إلى أن العلية يبوح بمعلومات رسمية، من خلال تذكيره بأنه يخالف الفقرة 8 من المادة 15 من المرسوم نفسه لجهة «البوح بالمعلومات الرسمية التي تطلعون عليها أثناء قيامكم بالوظيفة من دون ترخيص خطي من الإدارة». ثم يضيف عطية: «لقد قمتم بمراسلة مراجع رسمية، السيد وزير الإعلام، الوكالة الوطنية للإعلام، بصفتكم الوظيفية في غير المواضيع التي أولاكم إياها القانون وفي مواضيع تتعلق بشخصكم كمواطن الأمر الذي يعتبر استغلالاً لمركزكم الوظيفي لأمور شخصية ويحظره القانون على الموظف. ولما كنتم في عملكم هذا لا تستوحون المصلحة العامة والسهر على تطبيق القوانين والأنظمة النافذة من دون تجاوز أو مخالفة أو إهمال ويجعلكم متمردين على أوامر رئيسكم... ولما كان ما أقدمتهم عليه قد شوّه ويشوّه سمعة التفتيش المركزي التي تنضوي إدارة المناقصات تحت سلطته التسلسلية سنداً لأحكام المادة الأولى من المرسوم رقم 2460/59 (تنظيم التفتيش المركزي)، جئناً بكتابنا هذا نحذركم بعدم تكرار ما تقومون به... تحت طائلة اتخاذ التدابير القانونية المناسبة بحقكم».

قمع التمرّد
إذاً، العليّة يخالف تعليمات رئيسه. عطيّة يحاول أن يتصرّف على أنه الرئيس وأن العلية هو المرؤوس متغافلاً عن النقاش الذي دار قبل فترة في جلسة للجنة الإدارة والعدل النيابية حين وافق أعضاء اللجنة على أن العلاقة بين إدارة المناقصات وهيئة التفتيش المركزي هي علاقة إدارية وليست وظيفية. هذا الحسم جاء في إطار مناقشة اللجنة للتعديلات المتعلقة بقانون المناقصات العامة، لكن عطية أصرّ على التغاضي عن هذه القاعدة والتعامل مع العليّة على أساس الرئيس والمرؤوس. سلوكه قد يوحي بأن الهدف يقتصر على «ترويض» العلية «المتمرّد» على حد تعبير عطية، إلا أن المعطيات المتداولة والمعروفة عن هذه القضية منذ تعيين عطية رئيساً للتفتيش المركزي في آذار 2017، تشير إلى أن الأمر يحتمل أبعد من «الترويض».
الهدف، كما يبدو، يتعلق بالسيطرة على إدارة المناقصات ومنع العليّة عن ممارسة صلاحياته المنصوص عنها في قانون إنشاء إدارة المناقصات وفي قانون المحاسبة العمومية ونظام المناقصات. فالإعلان هو من صلاحية مدير المناقصات، أما دور التفتيش المركزي في علاقته مع إدارة المناقصات فقد حدّدت بوضوح في نظام المناقصات وهي تكاد تكون دوراً أكثر منها صلاحيات، وهو دور منوط بهيئة التفتيش المركزي لا برئيس التفتيش مثل المادة العاشرة التي تشير إلى أن رئيس إدارة المناقصات يختار الموظفين اللازمين لتنظيم ثلاث لوائح: «الأولى بأسماء رؤساء هيئات اللجنة، والثانية بأسماء ممثلي وزارة المالية، والثالثة بأسماء الأعضاء الآخرين، ويعرضها على هيئة التفتيش المركزي لتصديقها، قبل 15 كانون الأول»، والمادة 41 التي تنصّ على أنه: «تحدد إدارة المناقصات بموافقة هيئة التفتيش المركزي كيفية سير أعمال لجان المناقصات في المحافظات وتقديم العروض إليها».

علاقة مكهربة
الرغبة في السيطرة على إدارة المناقصات حكمت العلاقة بين عطيّة والعليّة منذ تعيين الأول في آذار 2017. فهو عيّن باقتراح من التيار الوطني الحرّ لينهي أزمة متفجرة في هيئة التفتيش بين رئيسها السابق جورج عواد والمفتش المالي السابق صلاح الدنف، ولم يكن في بال أحد أنه سيتفرّغ لأمرين؛ إخضاع المفتشين العامين، والسيطرة على إدارة المناقصات. يومها شاءت الظروف أن تحتلّ إدارة المناقصات الأولوية بسبب صدور قرار عن مجلس الوزراء ينقل ملف «استدراج عروض مولدات كهرباء عائمة» إلى هذه الإدارة، بدلاً من فضّ العروض في وزارة الطاقة.
وبصرف النظر عن الشبهات الكثيرة التي حامت حول صفقة مولدات الكهرباء العائمة، فإنه من الثابت، بحسب المطلعين، أن عطيّة لم يجلس على الحياد أبداً. فهو كان يحاول استقاء كل المعلومات الممكنة حول تفاصيل فضّ العروض ودراسة الملف ومسار الصفقة بهدف إطلاع مرجعيته السياسية على مجرياتها. فوجئ عطيّة بالتقرير الصادر عن العليّة بعد دراسته الملف والذي يرفض فضّ العروض المالية بسبب بقاء عارض وحيد. في ذلك الوقت تبيّن للعليّة أن دفتر الشروط ليس متوافقاً مع قانون المحاسبة العمومية وأنه قد أجريت تعديلات عليه بعد إطلاقه، أي جرى التلاعب فيه ما أدّى إلى تأهيل أربع شركات، منها واحدة مؤهلة، وثلاث مؤهلة بشروط! وبحسب أحد الوزراء، فإن عطيّة سمع كلاماً قاسياً من وزير بارز اتهمه بضعف قدرته على «ضبط» العليّة، طالباً منه أن يفرض سيطرته وإلا «فليستقل».
منذ ذلك الوقت اتخذت العلاقة بين عطية والعلية مساراً مختلفاً وبدأت تتأزم شيئاً فشيئاً بالتلازم مع عدم حسم ملف تلزيم معامل الكهرباء. فقد طلب مجلس الوزراء أن تعاد المناقصة وفق شروط جديدة وأن تفتح مهل استقبال العروض وأن تفضّ العروض... لكن في كلّ مرّة كانت النتيجة هي نفسها: بقاء عارض وحيد. وهذه النتيجة لم تكن مرضية للأطراف السياسية التي تتبنّى التلزيم وتدافع عنه أي وزراء التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، وهو ما انعكس مباشرة على أداء عطية. في تلك الفترة استعملت كل طرق التخويف والتهديد بإقالة العليّة، وبعض هذه الرسائل كانت تمرّ عبر عطيّة، إلى أن عرض أحد وزراء التيار في إحدى جلسات مجلس الوزراء، إقالة العليّة واستبداله.

سيطرة بعد ترويض
وقف وزراء حركة أمل وحزب الله والقوات والمردة بوجه هذا الطرح وفرضوا إبقاء العلية في موقعه لتعود الأزمة إلى مربع عطيّة. كان يجب ترويض وضبط العليّة بأي طريقة، فبدأ العمل على محاصرته إدارياً، تماماً كما حصل مع المدير العام للاستثمار في وزارة الطاقة غسان بيضون. فمنذ حزيران 2017 كان العليّة يرفع كتباً إلى رئيس التفتيش يطلب منه تأمين مكان لجلسات المناقصات، وتأمين بعض الأمور الإدارية واللوجستية لسير العمل، لكنه لم يتلق أي جواب سلبي أو إيجابي. وفي هذا الوقت كانت إدارة المناقصات تضجّ بالنقص الإداري واللوجستي ما يعيق مسار عملها ويؤخر انعقاد جلسات دراسة العروض وفض أسعارها. ورفض القاضي عطيّة تحديد موعد للعليّة إلا بعد مرور شهر على طلبه. العليّة لم يكن يريد شيئاً لنفسه، بل كان يريد حلحلة بعض العقد الإدارية لتسيير المرفق العام.
بقيت الأمور على هذا المنوال لأشهر إلى أن بلغت نقطة الانفجار يوم إجراء تلزيم «أشغال خطّ جمع رئيس للصرف الصحي في قضاء زغرتا». في ذلك اليوم كانت هناك حاجة ماسّة للجنة فض العروض بأن تعمل ضمن غرفة واسعة يمكن أن تتسع للجنة ولنحو 25 عارضاً، إلا ان عطيّة كعادته، لم يوافق على منح إدارة المناقصة الغرفة المطلوبة في مبنى التفتيش المركزي، ما دفع العليّة إلى إصدار قرار يقضي بتأجيل المناقصة.
إدارة المناقصات تتبع إدارياً، لا وظيفياً، لرئاسة التفتيش المركزي


وشكّل تأجيل المناقصة «القشة» التي فجّرت حرب الصلاحيات بين العليّة وعطية. ففي الإعلان الذي نشره العليّة على الوكالة الوطنية للإعلام، قال بوضوح إن التأجيل ناجم عن «امتناع رئاسة التفتيش عن تجهيز إدارة المناقصات بغرفة إضافية لإجراء جلسات فضّ العروض والإصرار على حشرها في ثلاثة أرباع الطابق من المبنى الذي يشغله التفيتش المركزي والمؤلف من أكثر من 10 طوابق، علماً أن رئاسة التفتيش تتجاهل الكتب الخطية الموجهة إليها من شهر حزيران 2017...». ولعبت الوكالة الوطنية دوراً سلبياً أيضاً، لأنها نشرت الإعلان ثم حذفته بطلب من القاضي عطية وأنكرت أن الحذف جاء بطلب منه. هذا الأمر دفع العليّة إلى مراسلة وزير الإعلام طالباً منه إعادة نشر بيان صادر عن إدارة المناقصات بالاستناد إلى قانون حق الوصول إلى المعلومات، إلا أن الوزير لم يستجب للطلب.

العلية أم إدارة المناقصات؟
هكذا انكشفت اللعبة بكل تفاصيلها، وبدا أن محاولة السيطرة على العليّة سياسياً فشلت، ما فرض الانتقال إلى محاولة السيطرة على إدارة المناقصات عبر وضع اليد عليها من قبل رئيس التفتيش المركزي. هذه السيطرة تتطلب أن يكون رئيس التفتيش المركزي رئيساً وظيفياً لإدارة المناقصات، لا رئيساً إدارياً. أما إثبات هذه السيطرة فهو قد يكون سهلاً في ظل وضع انتقالي للسلطة، إذ يكفي توجيه تحذير لمدير المناقصات وإبلاغه بهذا الأمر لتثبيت شرعية الادعاء بالصلاحية. لكن العليّة قرّر مواجهة عطيّة وأصدر بياناً يشير فيه إلى أن رئيس التفتيش المركزي «تجاوز الحدود القانونية، وأصدر تحذيراً يتضمن اتهامات بالتمرد واستغلال المركز الوظيفي، ومخالفة القوانين وغيرها من الصفات التي يعلم الجميع وبوضوح على من تنطبق.
لذلك، فإننا وعملاً بالأصول والقواعد القانونية، سنرد على هذا الكتاب لناحية اختصاص مصدره أصلًا، وصحة مضمونه، وسنده القانوني وفقاً للطرق الإدارية المتاحة، مع احتفاظنا بكامل حقوقنا الدستورية والقانونية».



تعطيل هيئة التفتيش المركزي
قالت مصادر مطلعة إن هيئة التفتيش المركزي لا تزال معطّلة رغم أن تعيين القاضي جورج عطية رئيساً للتفتيش جاء لانهاء أزمة التعطيل التي كان سببها خلافات بين رئيس الهيئة السابق جورج عواد والمفتش المالي السابق صلاح الدنف. فمنذ تعيينه في آذار 2017، لم تعقد هيئة التفتيش سوى بضعة جلسات تكاد تكون بروتوكولية (واحدة بينها كان موضوعها حلف اليمين). وباستثناء الدعوة الموجّة للهيئة إلى الانعقاد اليوم، فإن الهيئة لم تصدر قرارات تتعلق بالملفات المالية والإدارية النائمة في أدراجها. تعطيل الهيئة بحسب بيان صدر عن المفتش المالي السابق صلاح الدنف في أيلول الماضي، مصدره رئيس الهيئة الحالي جورج عطية. يقول الدنف إنه «عندما يقوم الرئيس الحالي بتعطيل اجتماعات الهيئة ويصادر صلاحياتها، يكون مخالفاً لأحكام القانون، وهو المؤتمن عليه وقد أقسم على تطبيقه، كما يكون مغتصباً للسلطة ومنتحلاً للصفة. ما يحاسبه عليهما القانون الجزائي اللبناني. عليه، فإن القانون لا يزال منتهكاً، وعلى نطاق واسع، والفساد لا يزال محمياً على نطاق أوسع».


العين على التلزيمات
ما هو الهدف من السيطرة على إدارة المناقصات؟ الإجابة تكمن في أن كل مشتريات الدولة تمرّ من هناك، لا بل إن تجاوز هذه الإدارة لتحويل المناقصة إلى استدراج عروض أو عقد بالتراضي يتطلب قراراً في مجلس الوزراء تتخذه السلطة السياسية. وهذه الإدارة هي المسؤولة عن تطبيق قانون المحاسبة العمومية ونظام المناقصات الذي يتضمن تعيين لجان المناقصات والتدقيق في الملفات وفضّ العروض وسير الجلسات... محاولة السيطرة على إدارة المناقصات في ظل قرار سياسي بحصر كل التلزيمات العامة فيها، هي عمل ينضوي ضمن منظومة الفساد ومحاولة للفوز بامتياز سياسي ضمن هذه المنظومة.