على قدر توقعات البعض وخيبات البعض الآخر، جاءت نتائج الانتخابات النيابية في دائرتي الجنوب الثانية والجنوب الثالثة اللتين تشكلان مع دائرة البقاع الثالثة، الثقل الشيعي، وتالياً عرين حركة أمل وحزب الله. لم يكن مفاجئاً أن يفوز مجدداً مرشحو الثنائي في النبطية وبنت جبيل وحاصبيا ـــ مرجعيون والزهراني وصور. نتيجة كانت طبيعية لحجم ونوع المنافسين. في «الجنوب الثالثة»، صعّب توزع المعارضة على خمس لوائح إمكانية الخرق. وفي «الجنوب الثانية»، برزت أزمة البديل. لكن في كلتا الدائرتين، شكّل تعثّر الشيوعيين من جهة وتحلّق الشيعة حول «أمل» وحزب الله، أبرز عاملين أبقيا المشهد جنوباً كما هو.قبل ستين عاماً، كان زهران غانم عضواً في هيئة المحكمة العسكرية التي تشكلت في العرقوب في زمن الوحدة بين سوريا ومصر. حينها، عام 1958، أدخل ابن كفرشوبا مع رفاقه محمد يحيى ورشيد القوسي وحسن عبد القادري «المبادئ الناصرية» إلى المنطقة، بعد مرورهم في سوريا الواقعة في السفح الشرقي لجبل الشيخ. كان المربع الرابط بين الجولان ولبنان وفلسطين، أرضاً خصبة للحركات الثورية والقومية والوطنية. رغم تجذر الأحزاب العلمانية، الشيوعي والقومي، قبل ذلك بسنوات، لكن العرقوب استوعب الناصرية ثم البعث، ولاحقاً فصائل المقاومة الفلسطينية. «ما الذي تبدل في تلك الأرض؟». نسأل غانم (84 عاماً) المنزوي بعيداً في منزله في صيدا. «لم يعد من شيء مشترك» يحسم. كثر مثل غانم ممن عايشوا زمان العلمانية والعروبة في العرقوب، يشعرون بالغربة. يستغرب «تخندق كل فئة على أساس مذهبي». يذكّر بزمن الإقطاع الذي سبق انتفاضة الأحزاب. «ظلم الإقطاع للفقراء واستغلالهم جعلا الناس تلجأ إلى الأحزاب الثورية والقومية، علّها تؤسس للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجميع». اللافت أن ظاهرة الأحزاب التي «أنتجت متغيرات طبقية وثقافية وسياسية، لم تعد تؤثر في المشهد العام». وهذا المشهد العام، يمثل عماد الخطيب وجهه الجديد. مرشح تيار المستقبل الخاسر عن المقعد السنّي، نال 8 آلاف و534 صوتاً. شكل رافعة للائحته المكتملة المدعومة من «المستقبل» والتيار الوطني الحر والمستقلين وطلال أرسلان التي حصدت 17 ألفاً و58 صوتاً.
لم يعد سراً أن رجل الأعمال طبّق بند الإنفاق الانتخابي إلى آخر دينار. كثر الحديث عن الحالة الأولى من نوعها التي نشرها الخطيب من «المال الانتخابي إلى استقدام ناخبين من الخارج». افتقاد لائحته الكم الكافي من الأصوات الشيعية، خسّره فرصة خرق مقعد النائب قاسم هاشم، إذ كان ينقص الحاصل الذي حصلت عليه لائحته، حوالى ثلاثة آلاف صوت للفوز على هاشم الذي نال تفضيلياً 5 آلاف و641 صوتاً.

الأسعد = 659
في بلدة بلاط (مرجعيون) يحتفل سليم سكيني. المدرس الذي أمضى سنواته السبعين في بلدته بلاط، يرى أن «الرجعية تعيش آخر أيامها». والرجعية بنظره هي قوى الإقطاع، لا سيما آل الأسعد والعائلات التي شكلت فروعاً لهم في الجنوب. بلاط كانت لا تزال حتى الأمس القريب توالي بجزء غير قليل الأسعديين. صلة النسب بين الأسعد وعائلة رمضان الذين نالوا لقب «الأفندية» في زمن العثمانيين، لعبت دوراً في ذلك. من الأفندية وأولادهم، من التف حول الرئيس الراحل لمجلس النواب كامل الأسعد، ووصل إلى مناصب رسمية عليا. في الزمن القريب، تزوج ابنه أحمد من عبير ابنة غالب رمضان. ورغم أن شقيقها علي رئيس البلدية الحالي المدعوم من حركة أمل، ترشحت رمضان للمرة الأولى عن أحد المقعدين الشيعيين في قضاء حاصبيا ـــ مرجعيون، على لائحة زوجها، في حين أن الأخير الذي اعتاد الترشح هنا، اختار هذه المرة الترشح عن النبطية. اللائحة شبه المكتملة التي شكلها في أقضية الجنوب الـ3، حصدت 659 صوتاً. الأسعد نال 256 صوتاً تفضيلياً، فيما نالت زوجته 93 صوتاً، علماً بأنه نال في انتخابات 2009 حوالى 10 آلاف صوت، فيما نال، حينذاك، أحد أعضاء لائحته عدنان عبود (شيوعي من الخيام) حوالى 11 ألفاً. لم تكن رمضان المرشحة الوحيدة في القضاء، من بلاط، في وجه لائحة الثنائي. مرهف رمضان الذي ترشح في وقت سابق مع أحمد الأسعد، ترشح هذه المرة مع التيار الوطني الحر وتيار المستقبل ومستقلين. المحامي الأسعدي نال 76 صوتاً تفضيلياً.
توقف كثيرون عند الحاصل الأسعدي الذي عكس آخر مراحل التقهقر الذي تعيشه الحالة الأسعدية جنوباً. وإن خرج رياض سعيد الأسعد من عباءة الأسعدية بصورتها النمطية، لكن كثيرين يحاكمونه كأسعدي. المرشح الدائم منذ عام 2000، يعدّ أبرز المعارضين في الزهراني. في عام 2005، عندما كان الزهراني وصور وبنت جبيل دائرة واحدة، نال 19 ألفاً و646 صوتاً. في عام 2009، عندما كان الزهراني دائرة مستقلة، نال 3 آلاف و574 صوتاً. التراجع بلغ ذروته الآن بتحقيق 1620 صوتاً تفضيلياً نالهم من ناخبي الزهراني، علماً بأن وجود مرشح مسيحي مدعوم من قوة وازنة (التيار الوطني) أخذ من دربه كمية كبيرة من الأصوات، لكونه حصل في السنوات الماضية على أرقام عالية في بعض البلدات المسيحية، فاقت ما حصل عليه الرئيس نبيه بري. الأسعد كان قد استبق الهزيمة بإعلانه في حديث إلى «الأخبار» أنه إن لم يفز فستكون انتخابات 2018 آخر دورة يترشح فيها. حاول البعض مقارنة التقهقر الأسعدي مع أزمة الحزب الشيوعي الذي يخشى مناصروه أن يتقهقر بعد أن فلش بساطه على القرى النائية قبل المدن.

السنديانة الحمراء في العاصفة
انبرى قياديو الحزب الشيوعي اللبناني في أقضية «الجنوب الثالثة» لإدارة معركة المعارضة بوجه لائحة حزب الله وحركة أمل. الهيكلية الحزبية من جهة والقاعدة العريضة الحمراء المتجذرة في المنطقة من جهة أخرى، جعلتا الشيوعيين محور المفاوضات. لكن قيادة الوتوات اختارت ألا تتحالف مع قوى السلطة، رافضة العروض التي تلقّتها من أحزاب لها حضور وازن تحتاج إلى تعزيزه بالحضور الشيوعي. أبرز العروض كانت من التيار الوطني الحر والقوات والكتائب والحزب الديموقراطي اللبناني. من دون الشيوعيين، تألفت اللائحة المدعومة من «المستقبل» والعونيين وأرسلان ومستقلين شيعة. كانت التوقعات أن الثقل السنّي والمسيحي في تلك اللائحة، يحتاج إلى ثقل شيوعي كاف للخرق بالمقعدين السنّي والأرثوذكسي. النتائج أكدت التوقعات. «تمسّكنا بالمبادئ والثوابت يخسّرنا في هذا البلد ولا يربحنا»، قال قيادي شيوعي لـ«الأخبار». الحزب الشيوعي «لا يلعب سياسة، بل يقدم سلوكاً يتماشى مع معتقداته الفكرية». كيف انعكس ذلك السلوك على الانتخابات الأخيرة؟
في «الجنوب الثالثة»، حصد الشيوعيون 5 آلاف و895 صوتاً. رقم تسبّب في صدمة للمناصرين وللقيادة على السواء. أين هي أصوات الشيوعيين المنتسبين في بلدات بنت جبيل والنبطية وحاصبيا ومرجعيون التي أحصتها الماكينة الانتخابية بنحو 12 ألف صوت؟ المرشح عن بنت جبيل أحمد مراد حصد في انتخابات 2018، ألفاً و44 صوتاً، في حين نال في انتخابات 1972 ثلاثة آلاف و160 صوتاً.
في «الجنوب الثالثة»، حصد الشيوعيون 5 آلاف و895 صوتاً، ما تسبّب في صدمة للمناصرين وللقيادة


القيادي كشف أن كثيراً من الشيوعيين «إما قاطعوا الانتخابات أو اقترعوا بأوراق بيضاء أو صوّتوا للوائح المنافسة، كموقف اعتراضي ضد أداء القيادة في الانتخابات. فالبعض طالب بالتحالف مع بعض قوى السلطة بهدف الوصول إلى المجلس النيابي، كتكرار لتجربة حبيب صادق عام 1992. لكن القيادة أصرّت على خوض المعركة مع المستقلين». اللائحة الحمراء الصرفة في الجنوب الـ3 لم تقنع بعض الشيوعيين ولم تؤمن الحاصل. أما اللائحة التي شارك بها في الجنوب الـ2، فلها عثراتها أيضاً. عند تشكيل اللوائح، اعترضت منظمة الزهراني في الحزب الشيوعي ويساريون ومستقلون آخرون في الزهراني وصور على أداء قيادة الحزب الانتخابي، خصوصاً على الترشح مع رياض الأسعد ووسام الحاج المدعوم من العونيين. لم يكتفوا بسحب المرشح حمزة عبود ومحاولة تشكيل لائحة ثالثة، بل دعوا إلى مقاطعة الانتخابات بشكل تام. لكن هل تشكل تلك الحركة المبرر الوحيد لحصول عضو اللجنة المركزية في الحزب رائد عطايا على 1382 صوتاً تفضيلياً فقط على مستوى بلدات صور التي يشكل بعضها قواعد مهمة للشيوعيين وحلفائهم من عين بعال وطيردبا وصريفا والبازورية وغيرها؟ كانت «معاً نحو التغيير» تعوّل على الصوت المسيحي والشيوعيين وناخبي القرى السنيّة في قضاء صور وفئات المعترضين الصامتين. لكن لم يقتنع الكثير منهم بالتغيير.
بين الوتوات ومنظماتها في المناطق، بدأ الإعداد لجلسات تقييم لتجربة انتخابات 2018. ليس لدراسة أسباب النتائج فقط، بل لمحاولة رصّ الصفوف مجدداً بعد تلويح البعض بالاستقالة والبعض الآخر بالاعتكاف.