سجّلت، أمس، أسعار سندات «اليوروبوندز» تحسّناً طفيفاً مع انحسار موجة الحرب الإقليمية، أقله في المدى المنظور، إلا أن مستوياتها لا تزال أدنى مما بلغته عقب احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية في مطلع تشرين الثاني الماضي، ما أوحى بأن مخاطر السندات اللبنانية لا تزال مرتفعة وبأن التحسّن ناتج من تدخل مصرف لبنان بهدف رفع أسعار السندات وخفض فوائدها.لم يكن مفاجئاً أن يقوم المستثمرون الأجانب بعرض سندات اليوروبوندز اللبنانية للبيع يوم الأربعاء الماضي. جاء الأمر نتيجة حتمية لارتفاع احتمالات اندلاع حرب إقليمية، ولا سيما أن القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران يمهّد الطريق أمام حرب من هذا النوع بعد سلسلة اعتداءات إسرائيلية استهدفت مواقع عسكرية للجيش السوري وحلفائه في سوريا.
مخاطر من هذا النوع انعكست سريعاً على المستثمرين الأجانب الذين يحملون سندات يوروبوندز لبنانية بقيمة تزيد على 9 مليارات دولار، أي ما يوازي 32% من مجمل محفظة سندات اليوروبوندز اللبنانية البالغة 28 مليار دولار، وهم رجال أعمال ومصارف وصناديق استثمار باتوا يعرضون التخلّي عن هذه السندات وبيعها بأقل من السعر المتداول. هكذا انخفضت أسعار السندات سريعاً وفقدت خلال يوم الأربعاء وحده 2.5% من قيمتها لتبلغ نسبة التدني في قيمتها قياساً على سعر الإصدار ما بين 16% للسندات الطويلة الأجل، و10% للسندات الأقصر أجلاً، أي أن السندات التي يبلغ سعرها وقت الإصدار نحو 100 دولار، باتت تباع اليوم بما بين 90 دولاراً و84 دولاراً. ولتعويض الانخفاض في السعر، بدأت الفائدة على هذه السندات ترتفع إلى ما بين 8.4% و8.9%.
هذا ما حصل يوم الأربعاء الماضي، إلا أنه برزت مجموعة عوامل أدّت إلى تحسّن الأسعار بشكل طفيف يوم أمس. من جهة، انحسرت موجة الحرب الإقليمية في المنطقة، ومن جهة ثانية، سرت أقاويل في السوق عن أن مصرف لبنان يعمد إلى شراء هذه السندات دعماً لسعرها ولأسعار السندات التي سيشتريها من وزارة المال بقيمة 5.5 مليارات دولار وسيبيع منها ملياري دولار فوراً.
ورغم أن أسعار السندات استعادت بشكل عام بعضاً من الانتعاش، إلا أنها كانت أمس لا تزال منخفضة وأدنى من المستويات التي بلغتها يوم احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية وإجباره على الاستقالة. وفي ضوء هذا الوضع، كان لا بدّ من تدخّل ما ضمن سلّة معطيات حدّدتها الجهات المسؤولة في مصرف لبنان ووزارة المال:
ــ يجب منع انهيار أسعار السندات ولا سيما أن هناك إصداراً يتم التحضير له بقيمة 5.5 مليارات دولار، وهناك مفاوضات بين الطرفين على فوائد السندات التي ستصدر واستحقاقاتها، ولا سيما أن هذا الإصدار سيكون من نصيب مصرف لبنان بكامله ليتاح له تسديد الثمن من خلال إطفاء سندات بالليرة اللبنانية ثم بيع سندات اليوروبوندو في الأسواق الدولية، أي أن الحفاظ على الأسعار كان أمراً مطلوباً حتى لا يتكبّد مصرف لبنان خسائر عندما يقرّر بيع السندات الجديدة.
ــ الجهة المحلية الوحيدة القادرة على شراء السندات من السوق هي مصرف لبنان. شراء سندات اليوروبوندز المنخفضة السعر لا يؤمن لمصرف لبنان القدرة على منع انهيار السعر فحسب، بل يقدّم له فرصة للاستثمار في سندات منخفضة السعر يمكن بيعها لاحقاً وتحقيق أرباح منها، علماً بأن مصرف لبنان يتحرّك بحسب حاجته للدولارات، وهي على ما يبدو حاجة كبيرة في هذه الأيام التي يتحسّب فيها لتجاذبات سياسية على صعيد تشكيل الحكومة.
ــ الجهات الأجنبية القادرة على شراء السندات هي صناديق الاستثمار التي يمكنها أن تشتري مثل هذه السندات ضمن محفظة استثمار متنوعة، لكن لا يمكن التعويل على الصناديق من أجل منع انهيار الأسهم بسبب كمية السندات المعروضة للبيع وقدرتها الاستيعابية ورغبتها في المخاطرة في حمل سندات في سوق محاطة بتقلبات سياسية وأمنية.
في هذا الإطار، يتوقع أن يشتري مصرف لبنان خلال الأيام المقبلة كمية كبيرة من السندات المعروضة للبيع بهدف رفع السعر وخفض أسعار الفوائد عليها، وهذا الأمر يفيد مصرف لبنان في الفترة التي ينوي فيها بيع السندات الجديدة في السوق الدولية ويخفف أي خسائر متوقعة. وبحسب تقديرات جهات خاصة، فإنه في حال بقاء الأسعار على حالها اليوم، سينعكس هذا الأمر على مصرف لبنان إذا قرّر بيع السندات الجديدة في السوق، والمتوقع أن تصدر خلال بضعة أيام، إذ قد ينخفض سعر السند إلى 60% من قيمته الأصلية.
هناك عوامل بنيوية تجعل النظام المالي والنقدي ضعيف المناعة


ولا يغفل العاملون في السوق المالية أن ما حصل يوم الأربعاء من انخفاض في أسعار السندات ليس سوى «بروفة» على ما يمكن أن يحصل إذا تدحرج الوضع السياسي والعسكري في المنطقة. فإلى جانب الهشاشة المالية والاقتصادية التي يعانيها لبنان، هناك عوامل بنيوية تجعل النظام المالي والنقدي سريع العطب خلافاً لما كان يقال عن مناعته وقدرته على المقاومة. فقد شهد يوم الأربعاء تداعيات خطيرة بدأت بأثر سلبي واسع طاول كل فئات السندات اللبنانية المدرجة في لوكسمبورغ، وإن كانت وطأتها مختلفة بين فئة وأخرى، إلا أن الأثر السلبي كان مرشحاً للتفاقم بسرعة. فالمعروف أن السندات هي مجموعات أو شرائح مقسمة تبعاً لتاريخ الإصدار وتاريخ الاستحقاق وقيمة الفائدة أو العائد عليها، وكل تاجر بالسندات يختار من هذه الشرائح أو الفئات ما يناسبه لجهة السندات التي تستحق على المدى القصير أو المدى المتوسط أو المدى البعيد، لكن الأزمة التي ظهرت يوم الأربعاء أن معدلات الفائدة على أسعار السندات القصيرة الأجل والطويلة الأجل صارت قريبة بعضها من بعض، ما ترك انطباعاً بأن المخاطر أكبر من التقديرات وأن المشكلة ليست ظرفية بل قد تكون أبعد من ذلك.
وفي المجمل، من المبكر معرفة قيمة السندات التي عرضت للبيع أمس، إلا أن التوقعات تشير إلى أن كمية كبيرة من السندات كانت معروضة ولم يكن هناك رغبة محليّة ــ لبنانية في شرائها، خلافاً لما كان يحصل سابقاً عندما كانت تنخفض أسعار هذه السندات وتشكّل فرصة لتحقيق بعض الأرباح في المتاجرة فيها.
في مثل هذه الحالات، كان المستثمرون اللبنانيون يراهنون على معرفتهم أكثر من غيرهم بأوضاع المنطقة، وعلى توافر السيولة لديهم، إذ إنهم يعلمون أن الأزمة ستكون محدودة وأنه يمكنهم بيع هذه السندات بأسعار مرتفعة بعد فترة قصيرة، خلافاً للمستثمرين الأجانب الأقل معرفة بالوضع التفصيلي اللبناني والأكثر جبناً والأكثر قدرة على نقل استثماراتهم إلى بلدان أخرى، لكن هذه المرّة واجه المستثمرون اللبنانيون أمرين أساسيين؛ الأول، أن نسبة السيولة ولا سيما بالعملات الأجنبية متدنية جداً بعد أكثر من سنتين ونصف سنة من الهندسات المالية المتواصلة التي ينفّذها مصرف لبنان وأدّت إلى جفاف السوق من السيولة بالدولار، كما أنه كان هناك اقتناع بأن طبول الحرب التي تقرع في المنطقة قد تكون متدحرجة وقد تشتعل المنطقة قريباً.