ليت هذه الانتخابات لم تكن. سوف تتعرض أفكار وقيم مثل المجتمع المدني والدولة المدنية والنسبية والحرية والتغيير وحقوق الإنسان وحماية البيئة... لنكسة كبيرة، لن تقوم منها في القريب العاجل. لقد تم استغلال هذه الأفكار التي كانت لها هالتها وجاذبيتها ومضمونها «الإنقاذي»، بأسخف الطرق وأكثرها تسطيحاً ونفعية (مادية وسلطوية). صحيح أن هذه متطلبات الانتخابات عادة، التي تنشد في جوهرها طلب الأكثرية (الأصوات)، إلا أن المشكلة الحقيقية تبدأ هنا. الأكثرية مشوشة (كي لا نقول فاسدة على المستوى الفكري على الأقل) ولا يستنهضها، على عجل الانتخابات، إلا الخطاب الشعبوي، الشبيه بالأدوات الشعبوية الحديثة، أي خطاب وسائل التواصل الاجتماعي، القائم على النقرة والتنقير (اللايكات)، لا على النظرية والتنظير (الأيديولوجيات أو البرامج المتكاملة).قد يقال في هذا المجال، إن التوجه «الشعبوي» في الانتخابات، المتأثر بتطور وسائل التواصل الاجتماعي، بات اتجاهاً عالمياً، أثّر في كبريات الدول والديموقراطيات العالمية كما في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة وفي بعض دول الاتحاد الأوروبي… إلا أن ذلك، لا يمنعنا من الخوف أكثر وأكثر، بأن وضعنا سيكون أكثر خطورة ما بعد الانتخابات. صحيح أن في سيطرة الشركات على سياسات الدول والدول نفسها أمر خطير، إلا أن الأخطر في منطقتنا، سيطرة المافيات وليس الشركات فقط، أو المافيات المموهة بأسماء شركات، والتي تستبيح كل شيء من أجل المال والربح والسلطة والنفوذ.
وهذا الـــ «كل شيء» المستباح، عندنا، يمكن أن يبدأ بنظام القيم وينتهي بالأنظمة الاقتصادية والأيكولوجية والصحية والزراعية والغذائية...الخ
فما نشاهده من هجمة لأصحاب الثروات (المشبوهة) على الترشح وطبع هذه الدورة من الانتخابات بطابعها واستغلال الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والأزمات المتعددة والمتداخلة التي تضرب المجتمعات منذ فترة، مؤشر خطير على ما ينتظرنا بعد هذه الانتخابات التي تتجاوز قواعد التجارة التقليدية وغير المستحبة. فهي بدل أن تشتري بالجملة وتبيع بالمفرق، كما كان يحصل عادة، تشتري بالمفرق لتبيع بعد الانتخابات بالجملة! لا سيما بعد أن تزامنت موجة الانتخابات مع موجة من المؤتمرات الدولية لزيادة الدين، تحضيراً لبيع الأصول العامة التي لم يتخل عنها لبنان على رغم كل ما أصابه من حروب ودمار وانهيار وإعادة إعمار.
أمام هذا الواقع، الذي بات يدركه معظم العاملين والمهتمين بالشأن العام، من خارج شبكات المصالح السلطوية المافياوية المعروفة، ما كان يفترض أن تترك الساحة، في مناسبات مفصلية مثل الانتخابات، لهواة ما يسمى «المجتمع المدني»، أو للنفعيين والوصوليين منهم، الشبيه سلوكهم بسلوك المشكو منهم في السلطات كافة... أو حتى للجديين الذين لم يستكملوا مشروع بناء الذات وتحديد الهوية المدنية والقيام بالمراجعات النقدية الضرورية للملفات أو لتاريخهم، قبل الشروع في التأسيس للمشاريع المستقبلية.
أمام هذا الواقع المعقد، كان يفترض إعادة الاعتبار للعمل الحزبي من النوع العقائدي والشمولي، التي ينتج منها برامج سياسية تشمل كل القطاعات، من ضمن منظومة واضحة من القيم والخيارات والرؤية الشاملة لمختلف القضايا التي تتواصل مع بعضها بشبكة من العلاقات العضوية، لم يتم تفكيكها بالمفرق (بين حقوق إنسان وامرأة وطفل وانتخابات وبيئة ومعوقين وطاقة ومياه ونقل وسير وتنمية…) إلاّ لتفكيك قدرة المجتمعات وقوتها… لاستسهال السيطرة عليها واستغلالها والسيطرة على الموارد وما يسمى «الأملاك العامة» والفضاء العام، إضافة إلى السيطرة على الماء والهواء ومقومات الحياة.
لقد أتت الانتخابات، قبل أن يبلور المجتمع وقوى التغيير مشروعاً فكرياً شاملاً وكبيراً، بديلاً عن كل شيء، بما في ذلك قانون الانتخاب العجيب نفسه! فهل فات الأوان، أم يمكن الاستدراك، بعد الانتخابات طبعاً؟!