«احذر من أن يتحقّق ما تتمنّاه»قول إنكليزي

في شباط الماضي، أصدرت جريدة «النهار» عدداً خاصاً، وأعطت رئاسة تحريره لحاكم مصرف لبنان. الأمر كان سيكون عادياً لولا أن احتفال إطلاق العدد الذي كتب فيه 250 شخصاً كان إلى حدّ ما سوريالياً، حيث بدا الحاكم يومها ليس فقط رئيس الرأسمالية اللبنانية، بل أيضاً الزعيم الأيديولوجي لها.
أريس ــ كوبا

طبعاً، منذ 1992 حتى الآن، كانت السياسة النقدية العمود الفقري للنموذج الاقتصادي الذي بُني بعد الحرب. وحول هذه المرساة، المتمثّلة ظاهرياً بثبات النقد اللبناني تجاه الدولار، تراكمت الثروات المالية لدى المصارف وكبار الماليين، وتشكّل الرأسمال السياسي للحكومات المتعاقبة، فكان أن أصبح المجتمعان، السياسي والبورجوازي، مدينين لمصرف لبنان وحاكمه بقوّتيهما ووجوديهما. لكن الأمر لم يتوقّف على هذا القدر من السلطة، بل إن ثبات النقد لمدة طويلة لعب أيضاً دوراً تخديرياً من حيث إيهامه الأكثرية أن هذا هو الهدف الوحيد الذي يهمّ في الاقتصاد. فمهما حصل للنموّ أو للبطالة أو لهجرة الشباب أو للبنية التحتية أو للدين العام أو للأجور أو لأكلاف السكن والتعليم، ومهما حدث (أو لم يحدث) لتأمينات التقاعد والصحة وغيرها، كله لا يهمّ ما دام الدولار يساوي 1500 ليرة لبنانية سنة بعد سنة. فلسهولته وظاهريته بالعين المجرّدة كان هذا هو الإنجاز الظاهر للجميع. كما أنه في الوقت نفسه كان من السهل للجميع أن يتصوّروا نتائج انتهائه، فهو سيصيبهم في الصميم آنياً، وبالتالي فإنهم مستعدّون لأن يعطوا من يرعى هذا الاستقرار كل السلطات الأرضية وغير الأرضية إن استطاعوا.
مؤخراً، وبعد تراكم العجوزات الخارجية لسنوات عدّة، وذهاب المصرف المركزي إلى استعمال أسلحة غير تقليدية من "هندسات" مالية وغيرها، وبعد عودة الدين العام إلى الارتفاع، وبعد التراجع الاقتصادي لسنوات، بدا أن البعض بدأ فعلاً بالتمني لو أن قوى فوق ــ طبيعية (supernatural) تنقذنا، خصوصاً أن هذه الهندسات بدت للبعض وكأنها السحر الذي أنقذ الجميع. مؤخراً، قال أحد السياسيين إنه لا يمكن أن نستمرّ في الطلب من حاكم مصرف لبنان أن يحقّق المعجزات، فهو ليس نبياً! والحاكم نفسه أدرك، ربما، خطورة حصول هذا الأمر، حين قال في مقابلة مع وكالة فرانس برس (AFP) في كانون الأول الماضي "أنا لست هاري بوتر"!

الحل النقدي نجح سابقاً... الحل النقدي لم يعد متاحاً
ممّا لا شك فيه أن عام 1992 كان عاماً صعباً، بل صعباً جداً. فقد بلغ التضخّم آنذاك 120%، والليرة كانت في وضع حرج، ما هدّد بأن تكون التسعينيات مثل الثمانينيات، أي عقداً جديداً من التضخّم وانهيار العملة. والقرارات التي ستُتّخذ كانت ستكون جذرية حتى ولو كان حاكم المصرف آنذاك يسارياً. للإضاءة على هذا الأمر، أذكر أن الاقتصادي الماركسي رودولف هيلفردينغ، مؤلّف كتاب "الرأسمال المالي" Das Finanzkapital ، الذي اعتُبر المجلّد الرابع لرأس المال، اتخذ قرارات متشدّدة عندما أصبح وزيراً للمالية في ألمانيا عام 1923، وإن، لربما، لم تكن صحيحة بالمطلق، من أجل محاربة التضخّم. إذاً قرار مصرف لبنان بدءاً من 1992 بالتثبيت واستعماله كمرساة لمحاربة التضخّم كان ضرورياً. ولكن ما حدث لاحقاً من حيث ترابط هذا القرار مع تزايد الدين العام واكتتاب المصارف والرأسماليين الكبار بأدواته وتزايد الفوائد الحقيقية والتحوّل إلى الإدمان المزمن على تدفق الرأسمال الخارجي، كان الخطأ الكبير الذي ارتكب، فتحوّلت المرساة إلى رسن كبح الاقتصاد الحقيقي.
لم يبقَ إلا حل واحد عبر الخصم القسري للدين (haircut) ليكون أمام لبنان فرصة للخروج من المأزق


في هذا الإطار، فقد أضاع المصرف فرصة التحوّل إلى نظام نقدي أكثر مرونة بعد أن تم القضاء على التضخّم وبعد أن كان من الواضح أن السياسة المالية تجاه تراكم الدين العام كانت عاجزة. في نهاية التسعينيات حصل أول انكماش للأسعار (أي التضخّم السلبي) في لبنان ودخل الاقتصاد في ركود، وبدا واضحاً أن الدين العام إلى الناتج المحلي الذي وصل إلى 100% لن يختفي لوحده أو يتم القضاء عليه بالنمو، كما كان يظن اقتصاديّو "خطة النهوض الاقتصادي". حينها لم يفعل المصرف شيئاً إزاء كل ذلك؛ فهو تمسّك بالتثبيت، وهنا الخطأ الكبير الذي ارتكب. ففي تلك الفترة كان يمكن التحوّل إلى نظام تضخّم مُدار وعملة أكثر مرونة من دون خسائر حقيقية كبيرة، لأن الدين العام كان أكثره بالليرة اللبنانية ولم تكن المؤسسات الرأسمالية والمستهلكون يحملون ديوناً كبيرة بالدولار. لو اتّبعت هذه السياسة آنذاك لما كان الاقتصاد اللبناني يعاني من أزمة الديون وأزمة التنافسية وأزمة الحاجة إلى التدفقات الرأسمالية من الخارج التي يعيشها اليوم، أي إنه بدلاً من أن ينقذ الدولة والاقتصاد من الآتي، آثر المصرف رعاية مصالح حاملي سندات الخزينة.
ولكن هذا الحل لم يعد متاحاً اليوم من دون خسائر كارثية. ولذلك يحارب المصرف المركزي من أجل الحفاظ على الثبات النقدي بجميع الوسائل، وصولاً إلى "الهندسات". فهذه الهندسات المالية لم تكن "مؤامرة" لضخّ الأرباح لدى المصارف، وإن حصل هذا، بل لحل معضلة العجز الخارجي الذي يهدّد النموذج بأسره.
من محاربة التضخّم إلى محاربة انكماش الأسعار
في عام 2015 حصل انكماش آخر للأسعار في لبنان، إذ بلغ التضخّم حوالى ــ 3.0%. هذه المرة قرّر المصرف محاربته باستمرار برامجه التوسعية.

ماذا تغيّر؟
الأمر الأول، بعد أزمة 2008 العالمية، تدخّلت المصارف المركزية بقوة عبر التيسير الكمي (quantitative easing) لمحاربة الركود واحتمال انكماش الأسعار. ربما تعلّم مصرف لبنان شيئاً من هذه التجارب، وأصبح واعياً لمخاطر الانكماش في الأسعار (الذي يظنّ الكثيرون، وحتى بعض الاقتصاديين، أنه أمر جيّد!) وتأثيره السيّئ على الإنتاج.
الأمر الثاني، أن المصرف كان قد تدخّل عبر زيادة السيولة والبرامج الإقراضية المختلفة، وعلى رأسها القروض السكنية، من أجل رفع أسعار الأصول العقارية التي كانت تشهد تراجعاً كبيراً، فاستمرّ فيها. في النتيجة، أدّى ضخّ النقد إلى الحفاظ على أرضية ما لأسعار الأراضي والعقارات، لكنه لم يكن مؤثراً في زيادة النمو الاقتصادي وتراكم الرأسمال الحقيقي.
ولكن هذه السياسة لم تستمرّ، واضطر المصرف إلى عكسها، فرفع الفوائد مؤخراً، وأدخل الاقتصاد الحقيقي في صدمة قوية، وأعلن نهاية فترة التوسّع في السيولة، لن ينفع الكلام حول "الثقة" بلبنان في التخفيف من وقعهما.
فهو وقع مرة أخرى في تناقضات سياساته وعدم مقدرته، وحده، على أن يحقّق أهدافاً عدّة في نهاية الأمر غير هدف التثبيت. وهو تراجع لأن هذه السياسات التوسعية تناقضت مع العجز الخارجي ومع الحاجة الدائمة إلى تدفّق الرأسمال من الخارج، خصوصاً بعد الأزمة السياسية في تشرين الثاني الماضي. ولكن هناك سبب آخر برأيي، ربما بالأهمية نفسها، إذ إنها أيضاً أعادت فتح شهية الدولة على الاستدانة، ما أوقعه في مرمى الاستهداف من قبل صندوق النقد الدولي.

شبح الصندوق
منذ زمن يخيّم شبح صندوق النقد الدولي على مصرف لبنان. فهو لم ترقه كثيراً سياسة التثبيت، خصوصاً عندما تبيّن انفلات المالية العامة، ولم يقتنع بها إلا بعد مضيّ سنوات كثيرة عليها. وفي أكثر الأوقات كانت انتقاداته لنموّ الدين العام وعجوزات الخزينة، وما يمكن أن تعكسه على الأوضاع النقدية، بمثابة انتقاد غير مباشر للمصرف المركزي، ما شكّل ألماً في الرأس مزمناً له. طبعاً، الصندوق هو نفسه أسير أفكاره البائدة التي ألحقت أذى كبيراً بالاقتصاد العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبالتالي لا يعوّل عليه. ولربما تُسجَّل نقطة إيجابية لمصرف لبنان والحكومات المتعاقبة منذ 1992 في أنها لم تُعِر الصندوق آذاناً صاغية دائماً. لكن العادات القديمة تموت بصعوبة. في تقريره عن لبنان في شباط الماضي، أشار الصندوق إلى أهمية رفع الفوائد من قبل المصرف وعدم الاعتماد على العمليات المالية فقط ( إقرار الهندسات المالية) من أجل الحفاظ على التدفقات الخارجية، في الوقت الذي حذر فيه من ارتفاع الدين العام! وبهذا بدا الاثنان هذه المرة كـ"الأعمى الذي يقود الأعمى"!

الإدمان المزمن على تدفق الرأسمال الخارجي كان الخطأ الأكبر الذي كبح الإقتصاد


في إنهائه لسياسة التوسّع وزيادة الفوائد وكبح السيولة، يعود المصرف ربما إلى دائرة الارتياح لديه (comfort zone). فالفائدة العالية كانت دوماً هي أساس هذا النظام. فهي تعطي الرأسمالي المالي موقعه السلطوي في المجتمع، حتى ضمن التراتبية الرأسمالية. إن المصرف المركزي يعطي الرأسمالي المالي هذه السلطة باختراعه "اصطناعياً" ندرة رأس المال التي تؤدي إلى "السلطة الطاغية للرأسمالي لاستغلال ندرة الرأسمال"، كما قال جون ماينارد كينز. وهنا أصبح الرقص بين مصالح الرأسماليين ينهك سياسات الحاكميّة! فوفرة النقد التي أتت لرفع أسعار الأصول اصطدمت في النهاية بسياسة التثبيت وبالدين العام وبمصالح الرأسمال المالي، فالدين أصبح الماحقة الاقتصادية التي تسحق القيمة الزائدة محوّلة القيم الناتجة من العمل من الطبقات التي تنتجها إلى الطبقات الخاملة.
إن الاستمرار في هذه السياسات النقدية المتناقضة لم يعد ممكناً في ظل عدم تغيير جذري في السياسة المالية عبر زيادة ووضع الضرائب على الريع والثروة حتى تأخذ الدولة بيد جزءاً مهماً ممّا يعطيه المصرف باليد الأخرى بدلاً من الفتات الآن. وهنا، على الرغم من عدم صلاحية المصرف في وضعها، إلا أنه على الأقل يقف متفرجاً، لأنه يريد أن يتابع دوره كرئيس للرأسمالية اللبنانية. لكن عندئذ لن يبقى إلا حل واحد، فآخر الدواء هو الكي. فقط عبر الخصم القسري للدين (haircut) سيكون أمام لبنان الفرصة للخروج من هذا المأزق. عندها سيكون الحل نقدياً، لكن عبر إنهاء سيطرة النقد نفسه. وذلك مطلوب اليوم بإلحاح قبل أن تهوي المقصلة على رؤوس الجميع.