«قصر عدل بعلبك» هو جزء من حكاية ناس بعلبك مع الدولة التي تُشعرهم بأن وجودها ليس ضرورياً ولا دائماً. الوجود «المؤقت» تشي به تتمة الحكاية التي تقول إنّ «مبنى العدل» ليس ملكاً لها، بل تشغله مقابل إيجار سنوي. وهذا تقليد تتبعه في معظم مباني مؤسساتها الرسمية. تدفع أموالها بدلات إيجار... ثم تضع رخامة كتلك. تدفع الدولة 71 ألف دولار، سنوياً، بدل إيجار العقار الذي يقوم عليه «القصر» المؤلف من أربع طبقات وعقار آخر عبارة عن مرآب للسيارات. هذا ما ينصّ عليه عقد الإيجار على الورق. أما الواقع فأمر آخر. فالـ71 ألف دولار تُدفع لقاء الإستفادة من 3 طبقات متهالكة و«سطح ردم وبحص»، يقول أحد الموظفين، متهكماً. والعقار الثاني؟ المرآب غير موجود إلا في عقد الإيجار. بحث عنه الموظفون طويلاً، لكنهم لم يجدوه. لذلك، يركنون سياراتهم «في موقف خاص مقابل بدلٍ مادي ندفعه يومياً»، يقول المحامي جاد رزق. وإلى المرآب «الضائع»، تدفع الدولة أيضاً إيجار الطبقة الرابعة «التي لا نستعملها»، يضيف رزق. أما حال المبنى من الداخل، فحدّث ولا حرج: دورات مياه بلا مياه، وجدران أتعبها النشّ تنتظر أن تسقط يوماً لترتاح، وسلالم تشجّع على الإنتحار...
تستأجر الدولة المبنى منذ عام 1994. 24 عاماً كاملة. يقول أحد الموظفين: «لو بني بتكاليف هذه السنوات قصر لكان أشبه بقصر يلدز. لكنهم بارعون في الهدر فقط». يشير الى محاولات كثيرة جرت لـ«التوسّط لدى الدولة لإيجاد البديل. جرت إتصالات مع أعلى المراجع منذ سنين ولم يتحرّك أحد». تشير إحدى الموظّفات الى وجود «بناء واسع ومؤهّل تملكه الدولة قريباً من القصر، لكنّهم لا ينقلوننا إليه، بحجّة انه دار للمعلّمين»، وتضيف: «لا يوجد فيه معلّمون بشكل يومي. يجتمعون كل سنة مرّة، وعددهم لا يتجاوز العشرين».
القاضي الوحيد يحضر إلى قصر بعلبك مرة في الأسبوع


في ظل اللامبالاة الرسمية، حاول الموظفون «تسكيج» أمورهم، فقسموا قاعة المحاكمة إلى مكاتب «بسبب نقص الغرف». يشير موظف إلى أحد تلك المكاتب المستحدثة: «كان هنا قوس يجلس تحته القاضي، ولكن بسبب النقص في الغرف، ألغوه». في غياب قاعة المحاكمات، نُقلت الجلسات إلى «مكتب القاضي». وهذا الأمر «مخالف للأصول، لأنّ القضاء هيبة، إلا أنه ما باليد حيلة». يتابع الموظف شارحاً وضع «القصر»، فيقول «عنا القاضي بيقعد والمحامي لازق فيه وعم يشوف شو عم يكتب، والقضاة بينطرو بعض ليستعيروا المكتب»! وكل ذلك لا يوازي جلسات المحاكمة «الرومانسية» على ضوء الشموع، في ظلّ غياب «كهرباء الدولة وكهرباء مولدات الإشتراك».

قاضٍ واحد لمئات الدعاوى
لأهالي الموقوفين جزء كبير من قصة القصر. يأتي هؤلاء قبل بداية دوام الموظفين. ينتظرون عند الأبواب في انتظار إجراء المحاكمات التي، في الغالب، لا تجري في الموعد المحدد. الانتظار هنا ليس بالساعات بل بالأيام. محمد السيد ينتظر محاكمة ابنه «الموقوف كرمال شغلة مش مستاهلة. المدّعي على إبني أسقط حقه تاني نهار، وبعدو إبني، لا عم يحوّلوه ولاعم يطلعوه». منذ 25 يوماً يأتي السيّد «قبل أوّل موظّف، وبفل بعد آخر موظّف»، وملف ابنه لم يصل إلى القاضي.
ليس السيد وحده من ينتظر هناك. كثيرون ينتظرون «طلّات» القاضي لإنهاء ملفاتهم العالقة. لكن، عبثاً ينتظرون، فالقاضي الوحيد يحضر إلى قصر بعلبك مرة في الأسبوع، فيما الملفّات مكدّسة ولا من يبتّ فيها. يؤكد رزق أن «المشكلة ليست في القضاة، فهم ليسوا متقاعسين أبداً، ولكن لا قضاة ثابتين في بعلبك». ويشير الى «أننا، كمحامين، أضربنا لشهر ونصف شهر مؤخراً مطالبين بتطبيق المرسوم الذي أقر عام 2003، وينص على استحداث محافظة بعلبك الهرمل، وفصل بعلبك عن زحلة قضائياً. لكن لا تزال الأمور على حالها». ولا تزال «عدلية بعلبك مرتبطة بالهيكليّة القضائيّة ضمن محافظة البقاع وتابعة لقصر عدل زحلة». ويضيف: «لدينا محامٍ عام لا مدعٍ عام، ولدينا قاضي تحقيق لا قاضي تحقيق أوّل، وليس لدينا محكمة جنايات، ولا صندوق مالي ولا سجل تجاري»، و«في التشكيلات القضائيّة الأخيرة تعاملوا معنا كأننا لسنا جزءاً من الدولة، وبقي القصر مقتصراً على قاضٍ منفرد واحد، فيما انتُدب 4 قضاة جدد بعد مطالباتنا الحثيثة، ولكنّ بنصف دوام فقط، أي أنهم يأتون بعد عملهم».
يبدي المحامي محمّد حيدر إستياءه من التهميش الواضح للمنطقة «التي لا تضم سوى محاميين عامين، في الوقت الذي يضم قصر عدل زحلة خمسة قضاة تحقيق وخمسة قضاة نيابة عامة ومدعياً عاماً». فيما يسخر رزق من تعاطي الدولة مع المنطقة، قائلاً: «الجّميع يطالبون بالأمن في بعلبك، ولكنّهم لا يدركون أنّ الأمن يبدأ من دعم القضاء». ويضيف: «هنا يقدّم أحدهم دعوى ضد آخر، فلا تتابع الدعوى وبتروح. هيك الواحد بيصير بدو ياخد حقو بإيدو، وبتخرب المنطقة». ويكمل «قدّمنا إقتراح تعديل قانون التنظيم القضائي لأحد الوزراء من المنطقة منذ عام 2004... وهيداك وج الضيف».