تحكم صراع حزب الله واسرائيل معادلة ردعية ذات أسس متشعبة ومتداخلة مع ما هو منظور ومخفى. الحرب البينية لم تعد تعني حصراً قتالاً صاخباً، بل حرباً مستعرة بلا ضجيج تدور رحاها بلا انقطاع، وإن كان من غير المستبعد، بالمطلق، عودة الحرب والقتال الى ما كانا عليه في العقود الماضية.لدى إسرائيل تسمية لهذه الحرب، غير الصاخبة: «المعركة بين الحروب»، فيما يصمت حزب الله تبعاً لاستراتيجية الصمت التي يتبعها. وإذا كان بالإمكان الحكم على استراتيجية إسرائيل (المعركة بين الحروب) عبر فحص النتيجة قياساً بالأهداف التي وضعت لها، إلا أنه من ناحية حزب الله، يفترض استنتاج الاستراتيجية أولاً، قبل الحكم على نتيجتها، رغم أن لا صعوبة في استنتاجها.
المعادلة القائمة بين الجانبين هي معادلة قوة وإرادة وردع متبادل، لا ينكره أي منهما. معادلة فرضت نفسها ومنعت إلى الآن «الحرب المقبلة»، رغم أن أسبابها ودوافعها وحوافزها حاضرة جداً على طاولة القرار في تل أبيب. محاولة إسرائيل الفاشلة عام 2014 من خلال جرّ اعتداءاتها من سوريا إلى لبنان، (الاعتداء بالقرب من الحدود مع سوريا وداخل الأراضي اللبنانية)، محاولة أعادت التأكيد على إرادة الردّ وثبتت المعادلة، التي ما زالت قائمة الى الآن.
في الأيام القليلة الماضية، صدرت من تل أبيب جملة من التهديدات للبنان وحزب الله، وكان أبرزها ما ورد على لسان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت، وكذلك عدد من المسؤولين العسكريين في الأركان العامة للجيش وفي شعبة الاستخبارات العسكرية. عاد أمس وزير الأمن أفيغدور ليبرمان ليضيف تهديدات جديدة الى تهديداته، و«ينصح» كل من يوجد على الجبهة الشمالية أن لا يختبر جبروت الجيش الإسرائيلي. في كل هذه التهديدات، كان لافتاً التوصيف المفرط والمبالغ فيه لمردوعية حزب الله، مقابل صمت لافت جداً تجاه مردوعية إسرائيل، رغم أن الأسباب التي أدت إلى استنتاج المردوعية منتفية من ناحية حزب الله، فيما أسباب مردوعية إسرائيل قائمة وحية وملموسة.
بحسب المواقف الصادرة عن تل أبيب: حزب الله مردوع، لأنه يخشى شنّ حرب ضد إسرائيل! هذا هو السبب الرئيسي الذي تدور حوله مواقف وتقديرات إسرائيل المعلنة. وفي موازاته، تشدد المواقف نفسها على استراتيجية «المعركة بين الحروب»، باعتبارها الاستراتيجية الأنجع لمنع التسلح النوعي لحزب الله، وتأجيل الحرب المقبلة، وربما أيضاً إلغائها بالمطلق.
من ناحية فعلية وقولية، أعلنت قيادة الحزب الموقف تجاه إسرائيل وحصرته بالدفاعي ـــ الصدّي، والهدف هو منع إسرائيل من الاعتداء على لبنان، والدفاع عنه وعن مصالحه مقابل أطماعها القائمة وعدوانها الممكن. في استراتيجية حزب الله المعلنة والمفعّلة، لا مكان لحرب ابتدائية يشنّها ضد إسرائيل ربطاً بميزان القوى الذي يفرض نفسه. أقصى ما يمكن فعله، وهو كذلك، صدّ إسرائيل ومنعها عن شنّ اعتداءات في الساحة اللبنانية، عبر تعزيز القوة العسكرية لديه. هذه القوة العسكرية هي مدار الحرب القائمة بين الجانبين، وأهم ما في «المعركة بين الحروب» من جانب إسرائيل، فيما مَهمة حزب الله، إضافة إلى التسلح النوعي، إفهام تل أبيب أن إرادة الرد موجودة ولا لبس فيها.
في الموازاة، تقاس استراتيجية إسرائيل المفعّلة، وهي «المعركة بين الحروب»، على ما وضعت هذه الاستراتيجية لأجله، وعلى النتيجة التي حققتها. وبما أنها تهدف إلى منع تسلح حزب الله بأسلحة نوعية، وكذلك إلى تأجيل الحرب وإن أمكن إلغاؤها تماماً تبعاً للنجاح في المقصد الاول (منع التسلح)، فهذا يعني أنها فشلت فشلاً ذريعاً. الأسلحة النوعية، بإقرار إسرائيل، باتت في حوزة حزب الله... ويزيد. وفي ذلك كان لافتاً حديث رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إيهود باراك ـــ صاحب مقولة «السلاح الكاسر للتوازن» و«منع وصوله إلى ترسانة حزب الله... وإلا» ـــ الذي اشار قبل أيام إلى أهم ما في «المعركة بين الحروب»، وهو «إبطاء» انزلاق صواريخ دقيقة إلى مخازن حزب الله. هنا يوجد تراجع إسرائيلي واضح جداً، من «المنع» الى «الإبطاء»، أي التسليم بواقع لم يعد الحؤول دونه في متناول اليد.
هل هذا يعني أن الساحة اللبنانية باتت محصّنة وأن الحرب باتت منتفية؟ بالتأكيد لا. يمكن استبعاد الحرب، ربطاً بالثمن المقدّر أن يدفعه الطرف المبادر إليها، أي إسرائيل، وهو ثمن يزداد طردياً يوماً بعد يوم، تبعاً للتسلح النوعي لحزب الله. ويمكن استبعادها ربطاً بقصور الحرب عن تحقيق النتيجة المتوخاة منها، وهي نتيجة تبتعد أيضاً يوماً بعد يوم. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن استبعاد الحرب بالمطلق، خاصة إن أخطأت إسرائيل تقدير موقف حزب الله، وظنّت أن «ارتداعه» يمنعه من الرد على اعتداءاتها، رغم الإدراك أنه غير قادر على تجاهل هذه الاعتداءات، مهما كان الثمن.
بناءً على هذا التأسيس، بات بالإمكان فهم المعادلة بين الجانبين وفهم عبارة «هي حرب مستبعدة لأن طرفيها لا يريدانها». حزب الله ممتنع عن شنّ حرب ابتدائية، لأن موقعه دفاعي ـــ صدّي مهما كانت الأثمان، فيما إسرائيل ممتنعة عن الفعل العدائي الابتدائي ومن ثم الحرب، لأن جدواها أقل من أثمانها، مع الإدراك المسبق أن النتيجة النهائية لحرب كهذه، غير مضمونة.
إلى متى تستمر فاعلية هذه المعادلات التي تبقي الطرفين في حرب غير صاخبة؟ المنطق يشير إلى استمرارها طالما لم يطرأ تغيير في مركباتها، وهو الأمر غير المنظور في هذه المرحلة، وربما أيضاً لاحقاً.
الحرب قد تنشب إن أخطأ الجانبان أو أحدهما، وبالأخص إسرائيل كونها الجهة المبادِرة، في تقدير موقف الجانب الآخر، وأعطى ردعيته شأناً ومستوى أكبر وأوسع مما هو عليه واقعاً. هذا الخطأ قد يدفع إسرائيل إلى المجازفة والى أفعال ابتدائية من شأنها أن تجر ردوداً، ومن ثم ردوداً على الردود، وصولاً إلى مواجهة موضعية لا يبعد تحولها إلى مواجهة شاملة.