من سخريات الزمان أن تتهم الولايات المتحدة الأميركية حركات المقاومة بالإتجار بالمخدرات، أو حتى بالادعاء أن لديها أي مشروعية أخلاقية أو سياسية لمكافحة ظاهرة زراعة أو تجارة المخدرات على صعيد عالمي. قدر لا محدود من الاستخفاف بعقول مختلف قطاعات الرأي العام العالمي يشي به هذا الزعم وهذه الاتهامات. ليس من المبالغة القول إن الولايات المتحدة كدولة وبعض أجهزتها الأمنية والعسكرية، وعلى رأسها وكالة الاستخبارات المركزية أدّت دوراً محورياً في تعاظم زراعة وتجارة المخدرات عبر العالم وذلك لتمويل عملياتها الخاصة و/أو لدعم المجهود الحربي لوكلائها المحليين. وقبل أن يسارع بعض «المحللين الموضوعيين» الى اتهامنا مرة أخرى بتبني نظريات المؤامرة، نحيل هؤلاء على محاضرعشرات الشهادات أمام الكونغرس وعلى عدد من المراجع عن الموضوع، صادرة عن كبريات دور النشر الأميركية. العودة إلى جميع هذه المعطيات تقود الى استنتاج واضح لا لبس فيه: لقد شكلت رعاية زراعة وتجارة المخدرات أحد مصادر التمويل المهمة للتدخلات الأميركية في عدد من دول آسيا وأميركا الوسطى واللاتينية.
القصة بدأت مع حرب فييتنام. خلال هذه الحرب، عمدت المخابرات الأميركية الى نقل الهيرويين المنتج في ما سمي يومها «المثلث الذهبي»، دولة لاوس أساساً، من قبل مجموعات مسلحة من قومية «الهمونغ» بقيادة الجنرال فانغ باو، عبر طائرات ووسائل نقل أميركية لتباع في الخارج ويعود مردودها لحلفاء الولايات المتحدة في لاوس وفييتنام الجنوبية. وقد وثّق الباحث الأميركي ألفريد ماك كوي في كتابه المرجعي «سياسة الهيرويين في جنوب شرق آسيا»، وكان في الأصل أطروحة دكتوراه قدمت إلى جامعة يايل، هذا الأمر بدقة شديدة. وقد استند الكتاب الى مئتين وخمسين مقابلة، بينها مع مسؤولين سابقين أو كانوا لا يزالون يومها يعملون مع المخابرات المركزية.
تضمن الكتاب المذكور أيضاً مقابلة مع موريس بيلو، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الفرنسية آنذاك SDECE، الذي اعترف بأن جهازه موّل عملياته الخاصة، خلال حرب فييتنام الأولى التي خاضتها فرنسا ضد شعب هذا البلد، عبر الإشراف على تجارة المخدرات في الهند الصينية، وأورثت بعد ذلك شبكاتها إلى الأميركيين.
السياسات الأميركية أدت إلى انتشار زراعة المخدرات في أفغانستان والإدمان عليها في هذا البلد وفي الدول المجاورة له، وصولاً إلى روسيا بشكل لا سابق له في التاريخ المعاصر


ماك كوي كشف في كتابه أيضاً أن شركة النقل الجوي Air America، وهي شركة واجهة للمخابرات المركزية، نقلت مباشرة المخدرات بمعرفة المسؤولين الأميركيين. من أبرز نتائج تعاظم إنتاج المخدرات أيضاً كان انتشار الإدمان على الهيرويين في صفوف الجنود وضباط الصف الصغار الأميركيين «فقد قدر أطباء الجيش الأميركي أن ما بين عشرة الى خمسة عشر في المئة من الجنود والضباط مدمنون على الهيرويين». بعد صدور الكتاب عام 1971، قدم ماك كوي شهادة أمام الكونغرس دحض فيها الحجج التي أوردتها المخابرات الأميركية للتخفيف من مسؤوليتها.
بعد التدخل السوفياتي في أفغانستان، استخدمت المخابرات الأميركية الهيرويين مرة أخرى لتمويل عملياتها وحلفائها ولترويج الإدمان عليه في صفوف الجنود السوفيات. الصحافي الأميركي الشهير جون كولي، كبير مراسلي صحيفة Christian Science Monitor، أوضح في كتابه المرجعي أيضاً «المخابرات المركزية الأميركية والجهاد»، كيف أن مدير الاستخبارات الفرنسية الخارجية الأسبق ألكسندر دو مارانش نصح نظراءه الأميركيين باستخدام هذا السلاح الذي يسمح بتحقيق أهداف عدة في الآن نفسه. أدت هذه السياسات الى انتشار زراعة المخدرات في أفغانستان والإدمان عليها في هذا البلد وفي الدول المجاورة له، وصولاً الى روسيا بشكل لا سابق له في التاريخ المعاصر.
المحطة الثالثة، والأكثر خطورة بالنسبة إلى ديموقراطية «عريقة» كالولايات المتحدة، هي تلك التي بدأت مع تعاون المخابرات المركزية الأميركية مع تجار المخدرات في أميركا اللاتينية لتمويل عصابات الكونترا في نيكارغوا، التي كانت تقاتل حكومة الساندينيين الوطنية، لأن الوكالة لم تتردد في إدخال هذه المخدرات الى أراضي بلادها وترويجها في الأحياء الفقيرة من مدنها، حيث تقطن غالبية من الأفريقيين ــ الأميركيين. واجهت إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان يومها عقبة كبيرة تمنعها من دعم عصابات الكونترا تمثلت بإصدار الكونغرس قانون بولند عام 1984 الذي يمنع الإدارة من تقديم أي مساعدة، باستثناء تلك الإنسانية، لهذه العصابات بسبب ارتكابها مجموعة مجازر مهولة بحق الفلاحين النيكاراغويين. كلفت الإدارة العقيد أوليفر نورث، عضو مجلس الأمن القومي، بتنظيم شبكات دعم للكونترا، بالتعاون مع عصابات المخدرات في كولومبيا أساساً، كارتيل ميديلين بقيادة بابلو أسكوبار بالتحديد، ونقل إنتاج هذه الأخيرة الى قواعد عسكرية أميركية بعد مرورها عبر الهندوراس أو بنما. أدى هذا الأمر الى مواجهة بين المخابرات المركزية ووكالة مكافحة المخدرات الأميركية DEA، ما حدا بمديرها الأسبق جون لاون الى اتهام العقيد نورث، خلال شهادته أمام الكونغرس، بالتعاون مع شبكات المخدرات ومع الديكتاتور البَنَمي مانويل نورييغا وبأنه لم يتردد في إعلام العصابات باختراقات لشبكاتها من قبل وكالة مكافحة المخدرات، ما شكل تهديداً لحياة عملائها. اتهامات مماثلة وجّهت للمخابرات المركزية من قبل عميل آخر لوكالة مكافحة المخدرات وهو مايكل ليفين.
أما الصحافي غاري ويب، الذي مات في ظروف غامضة عام 2004 وقيل إنه انتحر، فقد أشار الى أن المسؤولين السياسيين الأميركيين الرئيسيين عرفوا وغضّوا البصر عن عمليات إدخال وترويج المخدرات في بلدهم. سمح فتح السوق الأميركي أمام «منتجات» كارتيل ميديلين بأن يتحول الى أقوى عصابة مخدرات في أميركا اللاتينية في تلك الفترة وأن يدخل في مواجهة دامية مع الحكومة الكولومبية... الحليفة للولايات المتحدة.
هذا غيض من فيض السجل الأميركي الأسود نذكره لإنعاش ذاكرة بعض الذين لا يزال لديهم الاستعداد للاستماع الى ما تقوله الولايات المتحدة... والله من وراء القصد.