لا يظهر أن هناك، في مجلس النواب، من يريد، أو يرغب، بالإخلال بأحد أبرز الشروط المفروضة على الحكومة لانعقاد ما سمّي "باريس-4"، وهو إقرار قانون موازنة عام 2018 قبل 6 نيسان المقبل. ستعكف اللجان النيابية على تصفّحه بسرعة فائقة، وستنعقد الهيئة العامة قريباً جدّاً للتصديق عليه. ولن يكون هناك أيّ نقاش جدّي لأرقامه ولا لأحكامه الكثيرة والمثيرة، ولا لموقعه في التعامل مع "الأزمة"، التي يردّدون الآن أنها على وشك الانفجار، ويدعون إلى تحرّك فوريّ وسريع لتداركها.سيجري الأمر بسلاسة معهودة، لتذهب الحكومة إلى باريس في الموعد المحدّد، وتقدّم ما تيسّر لها من شهادات "حسن السلوك" و"فروض الطاعة". ستقوم بذلك قبل شهر واحد فقط من إجراء أول انتخابات نيابية منذ عام 2009.

ما الذي ستقدّمه الحكومة؟

- ستقدم برنامجاً استثمارياً ضخماً يمتد على 12 عاماً. يتضمن نحو 250 مشروعاً، تمثّل مجموع المشاريع في البنية التحتية والخدمة العامة، التي تم وضعها سابقاً على الورق ولم تنفّذ بحجّة عجز الدولة عن تمويلها وإدارتها وتشغيلها. يستهدف هذا البرنامج حشد تمويل إضافي بقيمة 22.9 مليار دولار. ثلاثة أرباع هذا التمويل، أو 17.3 مليار دولار، في المرحلتين الأولى والثانية (4 سنوات لكلّ مرحلة)، وقد جرى تصميم البرنامج بمعظمه بهدف جذب رساميل خارجية وضخ الدم في شرايين الحساب الجاري ودعم ميزان المدفوعات، الذي يسجّل عجزاً تراكمياً منذ عام 2011 بلغ نحو 8.3 مليار دولار.
تعرض الحكومة على المستثمرين، في المرحلتين الأوليين، مشاريع بقيمة 7 مليارات دولار، أي إن أكثر من 40% من التجهيزات المُستحدثة أو المسلّمة إلى القطاع الخاص سيتم نقلها ببساطة من الثروة العامة وزيادتها على الثروة الخاصة، وهي بمعظمها تتسم بطابع احتكاريّ، ما يضمن للشركات تحقيق أرباحٍ طائلة جرّاء التحكم بالأسعار، مضمونة من الدولة، التي ستتحمل وحدها أيّ مخاطر أو خسائر.
أمّا المشاريع الأخرى، فتطرح الحكومة تمويلها عبر قروض خارجية (تقرير فيفيان عقيقي)، وتسعى بهذه الطريقة إلى جذب نحو 10 مليارات دولار من الدين الأجنبي على مدى 8 سنوات، مع ما ينطوي عليه ذلك من إعادة هيكلة لافتة للدين العام الحكومي، لصالح زيادة الدين الخارجي وزيادة الحصّة التي تمسك بها الدول ومؤسسات وبرامج التمويل والصناديق المالية غير المحلية. بالإضافة طبعاً إلى إعادة هيكلة الكلفة وتوزّع آجال الاستحقاق.

- ستقدّم الحكومة في باريس أيضاً ما هو أخطر من ذلك. ما يصفه وزير الاقتصاد والتجارة، رائد خوري، على أنه "الهوية الاقتصادية التي نريدها للبنان" ("الأخبار"- 22 كانون الثاني 2018). يوضح خوري المسألة على الشكل التالي: "الدولة اللبنانيّة لم تضع رؤية اقتصاديّة واضحة يلتزم بها الكل. فيما المطلوب حالياً أن نتكلّم كلّنا بلغة اقتصاديّة واحدة". ولتوحيد اللغة والرؤية، لزّمت الحكومة هذه المهمة الوطنية "التاريخية" إلى شركة "ماكينزي" الأميركية، وكلّفتها أن تنوب عن كل القوى في المجتمع اللبناني. يطمئننا خوري إلى أن "ماكينزي" تشكّل "العنصر الجامع لكلّ الأفرقاء، لفتح حوار مع بعضنا البعض وتحديد التوجّه الاقتصادي"، ويقول إنها "جهة محايدة وليست طرفاً سياسياً داخلياً، وتمتلك الخبرات اللازمة لحل الأزمات نتيجة عملها في بلدان شبيهة للبنان، فضلاً عن الصدقية التي قد يكسبها لبنان أمام الجهات المانحة لوجود شركة عالميّة مساهمة في وضع خطته الاقتصاديّة".
هذا النوع من الأخبار لا يثير أيّ اهتمام ولا يدور حوله أي سجال، إلا من زاوية احتمال أن يكون العقد القائم بين الحكومة والشركة المذكورة فاسداً. ولكن هذه المهمة "عظيمة الشأن"، ولا يمكن تركها لمجموعة خبراء يبيعون خدماتهم الاستشارية إلى زبائن الشركة "غب الطلب". فالحديث بلغة اقتصادية واحدة عن رؤية اقتصادية واحدة، وإن كان مستحيلاً، فهو بالأساس ليس حديثاً تقنيّاً يخصّ الخبراء وحدهم، وهو لا يقع أصلاً في اختصاص "الاقتصاد الصرف" بقدر ما يقع في مجال "الاقتصاد السياسي" والصراع على الدولة وتوزيع الناتج. هذه المهمة التي يفترض أن تنجزها الصراعات الاجتماعية وموازين القوى فيها، باتت متروكة كلياً إلى البنوك المركزية وإدارات المصارف ومحافظ الثروات وصناديق الاستثمار، ومجموعة من المضاربين في الأسواق المالية والعقارية والخبراء الموظفين في المؤسسات والشركات العابرة للحدود، كشركة "ماكينزي" تماماً، التي ستبيع الدولة اللوغو" الخاص بها، أو لنقل الدليل الشامل (كاتالوغ) لخدمة رأس المال المسيطر.

- ستقدّم الحكومة، أيضاً وأيضاً، قانون الموازنة نفسه، وهو الوحيد مما ستقدمه في باريس مطروحاً للمناقشة في مجلس النواب، أي الوحيد الذي يتخذ شكلاً ديمقراطياً، ولو فارغاً أو بلا أي فعالية.
يعلن هذا القانون استعداد الحكومة لتبنّي سياسات تقشفية منتقاة، وتخفيض مخاطر العجز عن سداد فوائد الدين دون نقصان. ويعلن استعدادها لمنح رأس المال المزيد من الربحية والإعفاءات الضريبية والتسويات والتعديلات القانونية والإدارية. ويعلن أيضا استعدادها للمباشرة في إجراءات إلغاء الدعم لأسعار الكهرباء، ابتداء من الخطوة الرمزية التي قضت بنقل اعتمادات بقيمة 1.4 مليار دولار، مخصصة لهذا الدعم، من بند التحويلات في الموازنة إلى بند سلفات الخزينة. ويعلن أخيراً، استعداد الحكومة لمواصلة "الهندسات المالية" لتعزيز رأس المال المصرفي ونقل المزيد من الخسائر إلى ميزانية مصرف لبنان، دون الدائنين الآخرين، عبر إعادة جدولة 6 مليارات دولار من استحقاقات الدين في السنوات الثلاث المقبلة، إذ سيقوم البنك المركزي بإعادة شرائها من الحكومة بفائدة 1 أو 2% بدلاً من 7% تدفعها حالياً.
قد لا يكون كل ما يحصل مفاجئاً، ولا مستغرباً، ولكن يجدر النظر إليه بارتياب شديد، خلافاً لكلّ الأجواء "الإيجابية" الشائعة حول إقرار الموازنة وانعقاد مؤتمر باريس، ومزاعم "البطولة" التي يجري تسويقها للقول إن ما يقومون به هو "عمل جيد". هل هو حقاً كذلك؟