إن مجرّد تسرّب خبر محاولة ضابط(ة) في أحد الأجهزة الأمنية فبركة ملفّ جنائي بحقّ صحافي (هذه المرة استُهدف الصحافي الاستقصائي الزميل رضوان مرتضى) يعدّ تهديداً لكل من يعمل في قطاع الإعلام، وهو بمثابة رسالة ترهيب لمن يجرؤ على القيام بعمله من خلال التشكيك بـ«الحقائق» التي يحددها من هم في السلطة أو انتقاد ضابط(ة) أو موظف(ة) بسبب أدائه (ا) السيئ. وإن انتشار خبر فبركة ملف جنائي بحق أي صحافي يشبه دعوة لانصياع جميع الصحافيين لإرادة ضباط الأمن والمخابرات والجهات التي يتبعون لها، والّا...إن تعرض أي مواطن أو مواطنة لفبركة ملف قضائي بحقه(ا) أمر خطير يستدعي التحرك الفوري لمعاقبة المفبركين وأخذ كل التدابير اللازمة لعدم التكرار؛ غير أن لاستهداف الصحافيين نكهة خاصة ومحاذير لا بد من الإشارة إليها. فالصحافي مؤتمن على نقل الأخبار الصحيحة للناس عبر وسائل الإعلام التي لها تأثير وازن في السياسة والاقتصاد والمجتمع. وللصحافة دور مراقبة عمل الدولة وأداء المسؤولين الرسميين فيها والمسار السياسي الإداري لكافة المؤسسات الرسمية. كذلك للصحافي دور فضح التجاوزات والإشارة بالإصبع إلى مكامن الفساد والتشكيك في المعطيات والأقوال والادعاءات، بغضّ النظر عن مصدرها. وبالتالي إن تهديد الصحافيين باحتمال فبركة ملفات جنائية بحقهم لا يعطل مهماتهم الأساسية فحسب، بل قد يعدّ ضغطاً لتجنيدهم للعمل لمصلحة ضباط الأمن والمخابرات.
النظام المريض يجعل القضاة أنفسهم ضحايا نظام المحاصصة والزبائنية


ولعل أبشع ما في «تلبيس» جرائم مختلقة لأيٍّ كان، هو رضوخ الجمهور عامةً، وربما أقرب المقربين من المتهم لما يصدر عن «مصادر التحقيق» بحجة وجود تسجيلات وصور وأفلام وغيرها مما يُظنّ أنها تشكل دليلاً جنائياً. وقبل الشروع في مزيد من التوضيح، لا بد من الإشارة إلى أن للمحكمة المستقلة تحديد القيمة الثبوتية لأي دليل تقدمه النيابة العامة والبوليس. فالقرائن التي تعددها بيانات صادرة عن المؤسسات الأمنية أو حتى عن النيابات العامة لا يجوز احتسابها إثباتات جنائية إلا بعد موافقة المحكمة المستقلة على ذلك.
إن أكثر القضايا الجنائية المختلقة التي يراد منها التجني على أشخاص محددين تتعلق بالمخدرات والدعارة حيث إن المفبركين يعتقدون أن كل شخص حريص على سمعته بين الناس قد يرضخ لابتزاز من هذا النوع. لكن لا شك في أن «أبشع تهمة» على الإطلاق (كما أكد المسرحي زياد عيتاني إثر إطلاق سراحه) هي الخيانة والعمالة لمصلحة العدو الإسرائيلي. لا لأن العقوبة القانونية لمن ثبت ارتكابه الخيانة قد تصل إلى الإعدام فحسب، بل لأن العار والعيب الذي يأتي به العميل لعائلته ولأصدقائه ومعارفه يفوق العار والعيب الناتج من تعاطيه المخدرات أو ضلوعه في أعمال «منافية للحشمة».
يتيح التطور التكنولوجي لوسائل الاتصالات والتبادل الإلكتروني والإعداد والبثّ السمعي والبصري اختلاق ما يُزعم أنه دليل حسّي مباشر يثبت «حقيقة» ما حصل. وفي لبنان يمكن تحديد عدد من العناصر التي تسهّل اختلاق كهذا وتساهم في منحه صدقية بين الناس من خلال تحويله إلى قناعة. الانقسام السياسي والطائفي والمذهبي في لبنان والتنافس السلبي بين بعض أجهزة الأمن وبعض الضباط يشكل أبرز هذه العناصر. لكن المسؤولية الأساسية تقع على السلطة السياسية التي تحرم القضاء القيام بدوره الرقابي على الضابطة العدلية من خلال إخضاع التشكيلات القضائية للمحاصصة الطائفية/المذهبية والسياسية، وهو ما يحرم القضاء استقلاليته المفترضة ويمنع وصول الأكفياء من القضاة إلى المراكز الرئيسية إذا لم ينصاعوا لمشيئة الزعماء الفئويين. فلنأخذ مثلاً المدعي العام لدى محكمة التمييز الذي لا يمكن أن يكون إلا تابعاً لمذهب محدّد عملاً بالمحاصصة الطائفية/المذهبية، وذلك بصرف النظر عمّا إذا كان هناك في السلك قاضٍ آخر أكثر كفاءة منه لكنه من طائفة/مذهب مختلف. ولا يمكن استبعاد تقرّب القضاة المصنفين دينياً إلى المرجعيات الدينية الخاصة بهم. فهل «مراقبة موظفي الضابطة العدلية في نطاق الأعمال التي يقومون بها بوصفهم مساعدين للنيابة العامة» (المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) بعيدة كل البعد عن الاعتبارات الطائفية/المذهبية، أم أن النظام المريض يجعل القضاة أنفسهم ضحايا نظام المحاصصة والزبائنية الطائفية/المذهبية في لبنان؟ وإذا كان القاضي ضحية، فماذا عن المتهم البريء والسجين المظلوم والمدان من غير وجه حقّ؟