منذ أن وزّع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على أعضاء مجلس الوزراء دراسة تتعلق بملف الكهرباء، وأرقامها تخضع للتدقيق من مراجع عدة. ردّ الفعل الأوّلي لا يختلف كثيراً عن ردّ الفعل الذي تبع اتهام عون للحكومة بالعجز عن معالجة ملف الكهرباء. في الحالتين، قُرئت «انتفاضة الرئاسة الأولى» بوصفها تعويماً لسعي وزارة الطاقة لتوقيع عقد شراء الطاقة من البواخر.الدراسة متفائلة جداً وتشير إلى أن عجز الكهرباء (مقدّر في موزانة عام 2018 بـ1.4 مليار دولار) يمكن أن يتبخر خلال ثلاث سنوات فقط. لكن الخطة المقدمة تربط أيّ إنجاز ممكن باستئجار الطاقة من البواخر، أو ما يفضّل وزير الطاقة تسميته بشراء الطاقة من المعامل العائمة، بوصفه الحل «الأوحد» لتأمين حاجة الاستهلاك بشكل فوري.
هل يعقل أن الطبقة السياسية لم تكتشف خلال عام كامل أيّ حل بديل لحل البواخر، المطروح منذ آذار 2017، بذريعة الحاجة إلى الطاقة بشكل طارئ؟ وهل يعقل أن يعاد طرح الحل نفسه، أيضاً بوصفه الحل الوحيد للحصول على الكهرباء «بشكل طارئ»؟ لكن ماذا حصل خلال هذه السنة، ولماذا لم تنجح المناقصتان اللتان أجريتا في صيف وخريف 2017؟ ثم، ألا يجب، قبل إعادة البواخر إلى النقاش، انتظار القرار النهائي لمجلس شورى الدولة، الذي أصدر، في الأول من آذار الحالي، قراراً إعدادياً ثانياً، في الدعوى التي تطلب فيها شركة «ميدل إيست باور» إلغاء المناقصة وإلزام الدولة باستبدال النصوص التي لا تراعي مبدأي المناصفة والمساواة في دفتر الشروط.
السعر الواقعي للكيلواط / ساعة هو 15 سنتاً... وكلفة البواخر في العام مليار دولار


قضى القرار الأوّلي، الصادر في نهاية تشرين الثاني 2017، بتجميد المناقصة والطلب من وزارة الطاقة إبراز كامل الملف الإداري والفني العائد لاستدراج العروض، خلال أسبوع، وها هو القرار الثاني يعيد التأكيد على القرار الأول الذي يطلب من وزارة الطاقة «إبراز نسخة عن دفتر الشروط الخاص باستدراج العروض ضمن مهلة خمسة أيام من تاريخ التبليغ» (انتهت المهلة أمس).
بغض النظر عن سبب مماطلة الوزارة في التعامل مع الطلب القضائي، إلا أن ذلك لا يلغي أن الملف عالق في القضاء، وبالتالي، فإن أي خطة تستعين بالبواخر إنما تستبق حكم القضاء، وتفترض حلاً لا يمكن، قانوناً، الركون إليه بعد.
أما سياسياً، وبعد كل الإشكاليات التي رافقت المناقصة والاتهامات بتفصيلها على قياس البواخر التركية، لم يعد أمام الساعين إلى تمرير العقد سوى الاتفاق بالتراضي في مجلس الوزراء. وهو أمر يبدو شبه مستحيل لسببين؛ الأول، إعلان رئيس الجمهورية منذ نحو عام رفضه للاتفاقات بالتراضي. وثانياً، لأن الفريق الوزاري الذي سبق أن أصرّ على تنفيذ المناقصة عبر إدارة المناقصات، لا يزال على موقفه، على ما يؤكد مصدر وزاري. هذا يعني أن خيار البواخر ليس مرفوضاً بالمطلق، إنما المرفوض هو توجيه المناقصة نحو عارض وحيد. لذلك، يؤكد المصدر أن لا حل سوى بمناقصة شفافة تراعي المنافسة العادلة.
بحسب الدراسة المقدمة إلى مجلس الوزراء، فإن استقدام البواخر هو ألف باء تخفيض عجز الكهرباء، وصولاً إلى إلغائه. بعد قراءته للدراسة المعدّة، يخلص مصدر وزاري إلى اعتبار أن زيادة 850 ميغاواط قبل حل المشاكل التي تواجه القطاع، ستكون نتيجتها زيادة العجز لا تخفيضه. يربط المصدر خلاصته بعوامل عدة، أهمها:
* الهدر الفني وغير الفني، الذي يصل إلى 15 في المئة ويؤدي استمراره، ربطاً بزيادة التغذية بالتيار، إلى زيادة العجز المرتبط به لا العكس.
* عدم القدرة على إيصال الطاقة إلى كل المناطق اللبنانية، ولا سيما مناطق الجنوب والبقاع وعكار، ربطاً بعدم تطوير شبكة النقل والتوزيع التي تعمل اليوم بطاقتها القصوى.
* عدم القدرة على رفع أسعار الطاقة في كل المناطق، طالما أنه لن يكون بالإمكان زيادة حصتها من التغذية بالكهرباء، لأسباب تقنية تتعلق بعدم جاهزية شبكات النقل والتوزيع.
الدراسة المقدمة من رئيس الجمهورية تنفي أي احتمال لتأمين الطاقة من مصادر أخرى غير البواخر، إلى حين بناء المعامل البرية، التي تحتاج، بحسب الدراسة، إلى ثلاث سنوات. كذلك، تدخل الدراسة في مواجهة مع اقتراح أحد السياسيين تركيب مولدات على البر ذات قدرة إنتاج أصغر من المعامل الحالية بحجة تأثيراتها البيئية وحاجتها إلى بنية تحتية معقدة، علماً بأن مطّلعين على ملف الكهرباء سبق أن أكدوا أن بالإمكان خلال أقل من سنة البدء بزيادة إنتاج الطاقة، خاصة أن ثمة شركات قادرة على تأمين الطاقة بقوة ما بين 300 و500 ميغاواط خلال عام، أي إنه كان بالإمكان، لو بدأ العمل على بناء المعامل الثابتة منذ إطلاق مناقصة البواخر، البدء بإنتاج الطاقة بشكل تدريجي، بقدرة 125 ميغاواط لكل توربين ينجز تركيبه، على أن يتم العمل في هذه الأثناء على تحويل هذه التوربينات إلى العمل بنظام الحلقة المزودجة ( Combined Cycle )، الذي يزيد قدرة هذه التوربينات بنحو 40 في المئة. وأحد الحلول المطروحة أيضاً هو إعطاء الشركات الخاصة تراخيص لبناء معامل، تشتري منها الدولة الميغاواط ساعة بقيمة 30 دولاراً في الحد الأقصى (سعر شراء الطاقة من البواخر يساوي 58.5 دولاراً للميغاواط / ساعة).
في الدراسة أيضاً إشارة إلى أن تكلفة البواخر تبلغ 700 مليون دولار في السنة. هذا الرقم يعتمد على سعر وسطي للكيلواط / ساعة يبلغ 12.5 سنتاً، ووفق معدل 65 دولاراً لسعر النفط.
في معادلة حسابية بسيطة، يتضح أن بين سعر الكيلواط المشار إليه (12.5 سنتاً) والسعر الإجمالي (700 مليون دولار) تناقص واضح. الأول لا يؤدي إلى الثاني والعكس صحيح. فإذا كانت كلفة استئجار الطاقة في السنة 700 مليون دولار، فذلك يعني أن كلفة الكيلواط / ساعة ستكون 10.4 سنتات فقط. وينتج هذا الرقم عن قسمة 700 مليون دولار على 6701 ميغاواط / ساعة في العام (اعتماداً على معدل إنتاج سنوي يقدّر بـ8760 ساعة وبفعالية تقدر بـ90 في المئة).
أما إذا كان سعر 12.5 سنت للكيلواط / ساعة هو قاعدة الاحتساب، فإن السعر الإجمالي سيكون في 838 مليون دولار/ سنة. لكن حتى هذا الرقم لا يبدو منطقياً، إذ إنه يعني أن سعر برميل النفط يساوي 46.5 دولاراً، بينما السعر المقدر في موازنة 2018 هو 65 دولاراً للبرميل، بما يعني أن التكلفة الإجمالية ستكون مليار دولار وليس 700 مليون. وعندها يكون السعر الواقعي للكيلواط/ساعة 15 سنتاً وليس 12.5.
ذلك يعني ببساطة أن ما بُنيت عليه الدراسة ليس دقيقاً ولا يؤدي إلى النتائج المرجوة بتخفيض العجز، علماً بأن خبيراً في القطاع يدعو إلى فصل هدفي رفع مستوى الانتاج وتخفيض العجز. فمن يُرِد تخفيض العجز، عليه فقط أن ينهي المراوحة المستمرة في خطة تحويل المعامل من العمل على الفيول أويل إلى الغاز، من خلال بناء محطات للغاز المسال على الساحل اللبناني، التي أُقرّ إنشاؤها منذ سنوات، فيما الاستشاري المكلف بإعداد دفتر الشروط للمناقصة لم ينجز عمله بالرغم من بدء العمل منذ عام ونصف. الإبقاء على الواقع الحالي لقطاع الكهرباء واستبدال الفيول أويل بالغاز يعنيان تلقائياً توفير 40 في المئة من الفاتورة النفطية، وبالتالي تخفيض عجز الكهرباء بالنسبة نفسها.
في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 17 آب الماضي، قرار لافت يحمل الرقم 39، وفيه يقرر مجلس الوزراء تأجيل البحث في عرض وزارة الطاقة والمياه مشروع استقدام محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال إلى لبنان. في الجلسة نفسها، قرار يحمل الرقم 60، هو نفسه القرار الشهير المتعلق بإجراء مناقصة لاستقدام معامل لتوليد الكهرباء (البواخر)، فما هو الرابط بين القرارين؟