وائل جودة... خلف نابلس هناك البحر



حول العينين تجاعيد تمتدّ بتناسق. تبرز أكثر فأكثر مع الابتسامة. وائل جودة يبتسم. الطفل الذي حاول جنود الاحتلال تهشيم عظامه بعد مشاركته في الانتفاضة. عانى مشاكل صعبة في صدره على مدى سنوات بسبب الضرب الوحشي. يروي ما حدث بنفس الحماس الذي كان يعتريه في أول مرة روى فيها حادثته الشهيرة.
«كبّلوا أيدينا إلى الوراء، ووضعوا في رؤوسنا أكياساً سوداء رائحتها خانقة».
الطفل الذي تجاوز الأربعين من عمره اليوم، يشيح بنظره عن المتحدّث إليه وكأنه يحاول استرجاع المشاهد. شكل غرفة التحقيق المظلمة حيث تعرّض للعنف على أنواعه. ولاحقاً شكل القاعة المضيئة، التي أعلن فيها أحد الضباط الإسرائيليين الإفراج عنه أمام عدد ضخم من الصحافيين. بين المشهدين، سبعة أشهر، قضاها طفل عمره 13 عاماً في معتقل. يدع جودة هذه المعلومة تمرّ مرور الكرام، إذ أنه كجميع الفلسطينيين، اعتاد على الوحشية. أن يعتقل الأطفال وأن يعتقل الجميع. لم يستطع إكمال سنته الدراسية، ومُنع من متابعتها بعد خروجه من السجن، إلا أن إصراره على الوصول ونيل شهادة «التوجيهي» كان قوياً. نالها فعلاً، ولو بعد عدة سنوات. يعدّل ياقة سترته الجلدية.
يصمت ويكمل فجأة. لا ينسى يوم كان ذاهباً إلى المدرسة، ولحق به مستوطنون. رموه داخل باص لينهالوا عليه بالضرب. مشهد الباص والهرب من بطش المستوطنين في أحد شوارع نابلس لا يمكن أن يُمحى من ذاكرته. نابلس مدينته.
يعبّر طفل الانتفاضة الكبير عن سعادته بتلقيه دعوة من قبل شبان وشابات، إلى مؤتمر من تنظيمهم عن القضية الفلسطينية. يضحك ثم يسترجع وضعية وجهه الأساسية.
عندما يتكلّم عمّا يفرح يتذكّر ما يحزنه. أولاده الأربعة لم يتسنّ لهم قط رؤية عماتهم وأعمامهم الذين يعيشون في الخارج، ولا البحر الذي لا يبعد عنهم كثيراً: «لا نستطيع الوصول إلى البحر». إسرائيل تحتل أرضنا وبحرنا وجونا.


نيكولاس هادوا وبابلو عبدالله... كرة القدم بين الشمس والظلال



من تشيلي إلى فلسطين، وصلت الكرة. نيكولاس صاحب الضحكة الدائمة والعربية الجيدة رغم بعض المشاكل في اللفظ، يحدثنا عن تجربته وتجربة صديقه بابلو الذي لا يتقن العربية. الاثنان صديقان جمعهما حب كرة القدم وفلسطين. نيكولاس هادوا، مدرب منتخب فلسطين سابقاً، لم يقبل تقاضي أيّ أجر مالي بدل عمله هذا. يعتبر هادوا تدريبه للمنتخب الفلسطيني الدعم الذي يقدر على تقديمه، وهو فخور جداً بما قام به. يتدخّل بابلو ذو الأصول اللبنانية بحماس، ليشير إلى أن نيكولاس هو من استدعاه ليكون لاعباً في المنتخب الفلسطيني، دون تلقّي أي أجر أيضاً. بابلو ذو الشعر المجعد الطويل، يعتبر أن كونه رياضياً يعطيه فرصة للحديث عن القضية الفلسطينية ووحشية العدو الإسرائيلي، مؤكداً أن الدفاع عن هذه القضية هي قضيته. يرى نفسه فيها، ويرى نضال شعوب أميركا اللاتينية ضدّ الاستعمار والاستيطان فيها.
أحياناً يتعرض في بعض الأحيان لمضايقات: «مهاجمتي من قبل الصهاينة هو شرف لي». كل منهما لفّ حول رقبته كوفية. الشعار يبدو شعاراً، ولكنه يحرس عنقهما من النسيان، من الاستسلام للموضة، موضة الاستسلام. يتحدّث عن تجربته مع كرة القدم الفلسطينية. الاثنان كانا أول من أسّس مدرسة لتأهيل مدربي كرة قدم، بالإضافة إلى أنهما عملا على استقدام خبراء من الاتحاد الدولي لكرة القدم، ودول كالأرجنتين وتشيلي وغيرها. مختصون في مجالات عديدة، من بينهم مدربون مختصون في مجال اللياقة البدنية، بالإضافة إلى خبراء في كيفية التعامل مع الأطفال من أجل تدريبهم بالطريقة الأمثل. بأسف واضح، يقول نيكولاس إنه وفريقه كانوا لوحدهم. لم يتلقوا من السلطات الفلسطينية الرسمية دعماً مادياً ولا معنوياً، مع أنه بذل جهداً كبيراً ودرّب المنتخب من كل قلبه لعدة سنوات. في نظره، ما قدّمه للمنتخب كان واجباً وشغفاً. ليس له فضل على أحد، يقول. بعربيّته المتواضعة اللطيفة التي لا تسعفه عندما يتحمّس في الحديث، يصرّ على توجيه التحية إلى الحركات المقاومة. بابلو الذي سبق أن زار مخيمات فلسطينية في لبنان، لا يملّ من الحديث عن فلسطين التي -على حد قوله- منحته شرف معرفتها واللعب في صفوف منتخبها والدفاع عن قضيتها.


أم محمد أبو خضير... «أصعب إشي انو الإبن ما يرجعش»



«تعوّدت الحديث مع الصحافيين، والممثلين، والفنانين». تقول أم محمد وهي تضمّ إلى وجهها حجابها المتدلي. ولدها محمد ذو الـ16 عاماً، الذي اختطف وأحرق حياً على أيدي مستوطنين إسرائيليين وهو في طريقه إلى المسجد ليصلّي صلاة الصبح. صلابة الأم وهدوء نبرة صوتها وهي تروي ما جرى مع ولدها مدهشان. حلم تحرير فلسطين في نظرها بات أقرب إلى التحقق أكثر من أي وقت مضى. ولا يمكن أن تتخلى عن هذه الفكرة لأنها إن تخلت عنها تخلت عن وجودها. لكن الدمعة في العين لا تنتظر. وتملأ العينين عند ذكر ابنها.
تشدّد الأم على أن مجيئها إلى المؤتمر كان لأنها «ام فلسطينية». حكم المؤبد الذي ناله مرتكب الجريمة لم ولن يرضي الوالدة. لا شيء يعيد ابنها إلى مقاعد الدراسة. «آخر همها» الصحافة الإسرائيلية المنحازة إلى القتلة. «ولادنا بيطلعوا وما منعرف اذا رح يرجعوا. أصعب إشي على الأم انو ابنها يطلع وما يرجعش».
وكان الفتى محمد أبو خضير، ابن السادسة عشر ربيعاً، قد قُتِل على يد خمسة مستوطنين على مقربة من مسجد شعفاط، القريب من منزله. لم يكن يعرف الفتى أن صلاته في المسجد ستكون الأخيرة، ولا حتى عائلته التي استفاقت صباحاً على خبر إحراق ابنها. تقول الروايات بأن خمسة مستوطنين خطفت الفتى ثم عذّبته قبل أن تحرق جسده وترميه.
يرفض حسين أبو خضير، والد الشهيد، أن يتذكّر ابنه إلا «فتى طيباً ووسيماً». يتذكّر لحظاته الأخيرة معه قبل يومٍ من الحادثة. يقول «أمضينا ليلتنا سوياً، وعند الحادية عشرة ليلاً افترقنا وبعدها التقينا على السحور وافترقنا إلى الأبد». يقول بأنه لم ير ابنه في هيئته الأخيرة، وعندما استدعي للتعرف على جثّة ابنه كان سيرفض رؤيته على تلك الحالة، ولكن «حسن حظه» أن سلطات الإحتلال منعته من ذلك، مكتفية بإجراء فحوص الحمض النووي وإبلاغه فيها فيما بعد.
«الجمرة ما بتحرق إلا محلها»، يقول. وبرغم إدانة المستوطنين المسؤولين عن قتل ابنه، إلا أن وجع قلبه لم يجف. لا طاقة لحسين أبو خضير على هذه الخسارة. وفي كل مرّة يتذكّر فيها الفراغ الذي خلفه غياب ابنه، يشكو إلى الله فقده، طالباً بأن يختبر أهالي القتلة هذا الوجع.