من الأساسي، منذ البداية، أن لا يعتقد أحدٌ أنّنا نتكلّم عن مشكلة «زحمة السّير» بمعنى أنّها مشكلة عامّة، يعاني منها الجّميع بالتّساوي. حين يشتكي البرجوازي من «زحمة السّير»، ويصرّ على أن يخبرنا بالوقت الذي استغرقه، حانقاً في سيّارته الحديثة وهو ينتقل بين شقّته وعمله في «داونتاون» (أو صفّه في الجامعة الأميركية)، فهو فعليّاً يشتكي منّا نحن ومن وجودنا؛ نحن الأكثريّة التي تملأ المكان وتسدّ الطّريق وتنغّص حياته (بمعنى أنّه لو قتلت الدّولة، افتراضاً، نصفنا، أو بنت طرقات جديدة، تكون مشكلته قد انتهت في الحالتين).
نحن هنا نتحدّث عن النّقل بوصفه تعبيراً عن اقتصادٍ سياسيّ معقّد، يعكس أولويّات السّلطة وتشكيلها للخارطة السكّانية، ويلامس الطّبقات المختلفة بأشكالٍ متفاوتة؛ وليس باعتباره مسألة تقنيّة ومشكلة استيعاب و«ازدحام» (فازدحام السّير، بالمطلق، ستجده في كلّ مكان، من اليابان إلى كاليفورنيا).
المشكلة، من وجهة نظر الفقراء الذين يعيشون على الشريط الساحلي الذي يمتدّ جنوب وشمال العاصمة اللبنانيّة، وهم الأكثرية من دون حاجة إلى إحصاءات، لها طبيعة مختلفة تماماً. السّبب الوحيد الذي وضع هؤلاء النّاس هنا هو تركّز الأعمال في بيروت حصراً واقتصاد العقارات والبنية التحتيّة في البلد. حتّى نشرح أكثر: إن لم تكن ثريّاً، فإنّ بيروت ــ باختصار ــ هي مدينة مقرفة. مستوى الحياة منخفض والأسعار مثل أوروبا والخدمات سيّئة، فتجد نفسك تسكن في بيتٍ حقيرٍ، في حيٍّ بائس، تشتري الماء حتّى تغتسل وتسرق الكهرباء وتتصارع على موقف السيّارة مع جيرانٍ شرسين. لا أحد يريد مثل هذه الحياة. حتّى الأخلاقيات والتّعامل تختلف في بيروت، وهي مثالٌ على أزمة الحداثة العربيّة (حيث تخسر مجتمعك التقليدي القديم ولا تبني شيئاً بديلاً ناجحاً)، والتنافس والضّيق والفقر يأخذ صفات الماديّة والأنانية والعدوانيّة الى حدّها الأقصى في مكانٍ كهذا (وهذا، بالمقاييس اللبنانية، هو أمرٌ عظيم). إضافة الى هذا كلّه، فإنّ أغلب عوامل «الجذب» في العاصمة، من المطاعم العالمية الى المدارس الدوليّة، هي أمورٌ لا تستفيد منها أغلب العائلات التي وجدت نفسها نازحةً في بيروت، ولا تحصل من المدينة إلّا على الضنك والشقاء. كلّ هذه المقدّمة هي للتعليق على الخطاب الذي يشتكي، على الدّوام، من «اجتياح الريفيين للمدينة»، ويتأسّى على العائلات «الأصلية» والسّور المغلق؛ الفكرة هي أن نفهم من هو الضحيّة هنا.

الكآبة والسياسة

المشكلة الأكبر هي أنّنا، في لبنان، نملك خيارات أفضل بكثير. البلد صغيرٌ للغاية والمسافات قريبة وفيه ميّزات وجمال (أنا أقول إنّه، في عصر الإنترنت و«ضغط المسافات»، تصبح أمورٌ مثل المناخ والطّعام هي العوامل الأساسيّة التي تميّز مكاناً عن آخر ــ ولهذا السّبب فإنّ أقاليم مثل لبنان وسوريا قد حباها الله وإن جار عليها الزّمن). يمكنك، بما يقلّ عن ثمن الشقة الحقيرة في ضاحية فقيرة من ضواحي بيروت، أن تسكن، مثلاً، على تلّةٍ جميلة تطلّ على البحر وحولها أشجار الزيتون، على بعد أقلّ من أربعين كيلومتراً من العاصمة. أو يمكنك أن تقطن في بلدةٍ ساحليّة جميلة مثل الرّميلة، أمامك بحرٌ نظيفٌ وهدوءٌ وشواطئ. في وسعك أيضاً أن تسكن في صيدا، حيث الطّعام أفضل، والأسعار أقلّ، والحياة أسهل. ولكنّ هذا كلّه صعبٌ بفضل نظام النّقل والعقارات في لبنان. غياب أيّ شكلٍ من النّقل العام يعني أنّ مداخل بيروت تسدّ في كلّ يومٍ بسيّارات المواطنين الذين يحاولون الدّخول الى المدينة. معارفي الذين يسكنون خارج العاصمة (إمّا لأنهم لا يقدرون على احتمال الكلفة أو لأنّهم فضّلوا، وفق المعادلة أعلاه، أن يظلّوا في قراهم ويتجنبوا ذلّ النّزوح والانحدار في مستوى العيش) يجمعون على أنّ اختبار الدّخول والخروج من بيروت كلّ يوم هو أسوأ ما في حياتهم. أي إنهم يتكلّمون عن الأمر بلغة من يصف الزواج السيّئ أو المرض العضال؛ الشيء الذي تقدر بسهولة على الإشارة إليه باعتباره السبب الأول لبؤسك وغمّك، وأنّ حياتك ستكون أفضل بكثير من دونه.
بمعنى آخر، هؤلاء النّاس يقولون إنّهم لا يريدون «اجتياح المدينة»، ولا التنافس مع الأثرياء على عقاراتها، وهم يفضّلون أن يتركوها لك وأن يسكنوا في قراهم ولكنّ النّظام لا يعطيهم هذا الخيار، ولا يسمح لك ببساطة بالهروب والابتعاد، فضريبة الانتقال في لبنان لا تقلّ عن ضريبة السّكن في العاصمة المكتظّة وضواحيها. الخطاب عن ضرورة تفعيل «اللامركزية» كحلّ للأطراف هو مناسبٌ للسياسيّين ولكنّه ليس منطقيّاً ولا نحن نقدر على كلفته. في بلدٍ بحجم لبنان، أنت لا تحتاج إلى خمسة مستشفيات اختصاصية، وأربع جامعات، وسبعة مراكز إدارية موزّعة على المناطق، فيما المسافة بين العاصمة و90% من سكّان البلد تقلّ عن 80 كيلومتراً، ويمكنك أن تصل إليها من أيّ مكانٍ في لبنان (لو أسرجت جواداً وركبته) خلال ساعات قليلة. المنطقي هو أن تكون هذه المناطق موصولة ببعضها البعض بسهولة عبر نظام نقلٍ كفوء، وهذا نظرياً يسيرٌ في بلدٍ صغير. المنطقي هو أن لا تحتاج الى أكثر من أربعين دقيقة للوصول الى بيروت من أيّ مكانٍ على السّاحل، وأن تكون قادراً على السّكن خارج العاصمة والعمل فيها من دون أن تمرّ كلّ يومٍ في درب الجلجلة. هذا كلّه غير ممكنٍ إلّا مع نظام نقلٍ عام، يناسب طبيعة البلد وحاجاته. حين تتحدّث إلى اللبنانيين اليوم، تفهم أنّ الانفجار في البلد لن يأتي بسبب إشكالٍ طائفي أو خيانة وطنية أو فساد الحاكمين (فهذه أمورٌ كلّها قد استوعبناها وتجاوزناها) بل سيحصل الانفجار بسبب المضايقات اليوميّة التي تسلّط على المواطن العادي والفقير في شؤون حياته البسيطة، وتمسّه على المستوى الشخصي المباشر، وتقلّص احتمالات عيشه وتجعل يومه كمداً. والمواطن يشعر باضطراد، كلّما قُطعت في منزله الكهرباء أو أفسد يومه انسداد السّير أو وجد نفسه عالقاً في نفقٍ مع مئات الموظّفين المنهكين، أنّ هذه السياسات مصمّمة تحديداً لكي تضايقه وتعتدي عليه وتستفزّه (وهو محقٌّ في هذا الاعتقاد).

نقاشٌ مختصر عن القطار في لبنان

(ملاحظة: كالعادة في مثل هذه المواضيع، تجدر الإشارة إلى أنّني لست مختصّاً في النّقل ولا أملك خلفيّة تقنيّة، بل اعتمدت، في الجانب الهندسي، على أدبياتٍ منشورةٍ في المجال، وعلى استشارة مختصّين وملاحظاتهم. لهذا السّبب، الكلام في الجوانب التقنية هنا هو عموميّ وتقريبي، وليس «علميّاً» خلفه دراسات، فلا تأخذوا الحسابات والأرقام على الثّقة). في المبدأ، قد يتخيّل أكثر النّاس أنّ مشكلة لبنان حلّها سهل: سكّة قطار مزدوجة تغطّي السّاحل وتنقل النّاس والبضائع؛ ولكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك. السكّة القديمة، التي بناها الفرنسيون أيّام الانتداب ولم تعد مستخدمة، من الصّعب إحياؤها ــ عدا عن التعدّيات، السكّة القديمة، أو ما بقي منها، طريقها متعرّجٌ كثيراً وغير فعّال، وهي باتّجاه واحد ولم تصمّم للخدمة الكثيفة أو لوصل التجمعات السكانية في لبنان.

نظام الـ«مونورايل» لن يحتاج تقريباً إلى استملاكات، بل يمكن نصب أعمدته في المساحة التي تفصل بين جانبَي الطريق السريع
ثانياً، شقّ خطّ جديدٍ على السّاحل اللبناني الضيّق سيستلزم استملاكات كبيرة وسيكون مكلفاً للغاية (حتّى في أفضل الظروف). ثالثاً، قد لا تكون هناك حاجة حالياً لقطارٍ ثقيلٍ على الطريقة التقليدية، وذي قدرةٍ كبيرة. لا سوق، اليوم أو في المستقبل، لنقل البضائع بالقطارات داخل لبنان (فالمسافة من المرفأ الى أيّ مكان تقطعها الشاحنات في رحلةٍ قصيرة، ومباشرة الى المقصد النهائي)، وباستثناء وصلةٍ بين طرابلس وسوريا، لا توجد امكانية حقيقية لربط شبكةٍ لبنانية من هذا النوع بالخارج وسوق الاستيراد والتصدير، طالما أنّ فلسطين لا تزال محتلّة وطالما أنّنا لم نحفر بعد نفقاً تحت جبال لبنان، يصل السّاحل بالبقاع ودمشق والدّاخل العربي (لو أنّنا جعلنا عملاء ميليشيا لحد، بعد التحرير عام 2000، يعملون بالسّخرة على هذا المشروع كعقوبة، لكنّا نحتفل اليوم بافتتاحه، ولكان البلد أفضل على أكثر من مستوى. ولكن النخبة الحاكمة في لبنان لا تنقصها الوطنيّة فحسب، بل الخيال أيضاً).
من هنا، بالنّظر الى عوامل الوضع الجغرافي، والحاجة الى نقل الركّاب حصراً، وباعتبارنا بلداً فقيراً قليل السكّان، اقترحت منذ أعوامٍ مشروعاً للنقل العام على السّاحل اللبناني، أسميته بالانكليزية Coastal People Mover، أو اختصاراً (CPM). الفكرة هنا، بتبسيط، هي أن تستعمل قطاراً خفيفاً كهربائياً، يشبه قطارات المترو، يكون أكثر مساره على طريقٍ معلّق فوق أعمدةٍ خرسانيّة، ويصل بيروت بضواحيها الشمالية والجنوبية، ويمكن أن يمتدّ مستقبلاً على طول السّاحل لخدمة الركّاب. أنت لا تحتاج الى سرعةٍ فائقة ولا الى أنفاق مكلفة وبنية تحتيّة معقّدة، بل الى قطارٍ رخيصٍ عمليٍّ لنقل الركّاب، وقادرٍ على التوقّف في محطّات كثيرة ومتقاربة. هذه القطارات الخفيفة هي مثالية لخدمة النقل بين صيدا ونهر الكلب مثلاً (في مرحلة أولى)، وهذا مسارٌ قصير لا يتجاوز الخمسين كيلومتراً، ولكنّك تغطّي به أكثر التجمعات السكانية المجاورة للعاصمة، وأكبرها في لبنان، بنظام نقلٍ جماعيّ، يربط أهمّ المؤسسات والمقاصد بعضها ببعض (المطار، الجامعة اللبنانية، وسط المدينة، الخ)، ويفتح الباب على انتشارٍ أرحبٍ للسكّان والعمل.
الميزة الثّانية هي أنّ نظاماً كهذا لن يحتاج تقريباً إلى استملاكات، بل يمكن نصب أعمدته في المساحة الضيّقة («الجزيرة») التي تفصل بين جانبيّ الطّريق السّريع أو حتّى على بقعةٍ صغيرة في وسط الطّريق أو على جانبه. أصبحت الأعمدة الّتي تحمل مسار هذه القطارات تُصمّم بشكلٍ رشيقٍ وفعّال يوفّر المساحة. فلا تحتاج الى أكثر من أعمدة مفردة صغيرة ومرتفعة، تبعد عشرات الأمتار عن بعضها، وهي كفيلةٌ بحمل خطّي قطار متقابلين. وهذا القطار يمكن له أن يمرّ فوق الطّريق السريع الموجود أصلاً، أو حتّى داخل الشوارع العريضة في العاصمة - وهو مصمّمٌ أصلاً لمثل هذا الاستخدام (أتمنى أن لا يخرج أحدٌ ليحتجّ على التأثير الجمالي لقطارٍ معلّق في منطقة الشيّاح). يوجد هنا تفصيلٌ تقنيّ لا بدّ من ذكره، وهو أنّ القطار المذكور يجب أن يكون من فئة «مونورايل»، الذي يسير على سكّةٍ واحدة. الـ«مونورايل» كتقنية لم ينجح كثيراً وينتشر، فنقّاده يقولون إنّه لا يحمل ميزةً خاصّة تبرّره: لا هو يملك قدرة استيعاب ضخمة كالقطار التقليدي الثقيل، ولا هو أرخص بشكلٍ ملحوظٍ من قطار الـ«مترو» المديني. بل إنّ هناك حلقةً خاصّة في مسلسل «ذا سيمبسونز» تسخر من الـ«مونورايل» باعتباره رمزاً للمشاريع الواهية - ولكن اصبروا معي قليلاً. الميزة الوحيدة للـ«مونورايل» على غيره، باختصار، هي أنّه يستلزم مساراً أضيق بكثير من البدائل، لأنّه يسير على سكّةٍ مفردة، وأيضاً أنّه قابلٌ للانعطاف بزوايا حادّة يعجز عنها منافسوه، فهو يصلح لتتبّع شوارع المدينة والسير فوقها. هاتان الميزتان، وبخاصّة ميزة المساحة، لا قيمة كبرى لها في أكثر دول الغرب وآسيا حيث المسافات كبيرة والأرض وفيرة، ولكنّها أساسيّة في بلدٍ الأرض فيه نادرة وثمينة، ويعيش أكثر سكانه على شريط ساحليٍّ ضيّقٍ للغاية.
إضافة الى ذلك كلّه، فإنّ نظاماً من هذا النمط تكون محطّاته بسيطة، شبه مكشوفة، لا تكلّف كثيراً، وتشغيله سهلٌ نسبيّاً، وقد تقلّ كلفة إنجازه (لو حصلت كما يجب) عن المليار دولار. للمقارنة، تقترح الدولة اليوم لحلّ أزمة السّير شقّ طريقٍ جديدٍ للسيارات بين جنوب بيروت وشمالها، تقدّر كلفته بثلاثة مليارات دولار لثلاثين كيلومتراً فحسب ــ أكثر المبلغ ثمن استملاكات .أي ما يفوق كلفة بناء الكيلومتر لقطارٍ خارقٍ حديث، على مستوى الشينكانسن الياباني، في بلدٍ من بلاد الغرب المتقدّم، أو خطّ مترو تحت الأرض في مدينة آسيويّة (مئة مليون دولار للكيلومتر الواحد!). بأقلّ من ذلك بكثير، يمكنك أن تعطي حلّاً جماعيّاً للبنانيّين، لا يحتاج إلى اقتناء السيارة واستيرادها، ويوصلك الى قلب بيروت من صيدا خلال أقلّ من نصف ساعة (في أيّ يومٍ وأيّ وقت) ومن الضبيّة أو خلدة في دقائق معدودة. لمن يطالب بأوتوسترادات جديدة في لبنان وبتعزيز ثقافة السيارات، يجدر تذكيرهم بأنّ بلداً يقارب لبنان في عدد سكانه، كالدنمارك، عاصمته لا تربط أطرافها فعلياً «اوتوسترادات» بحجم تلك التي تخترق بيروت، وذلك لقلّة السيارات وانعدام الحاجة اليها في الانتقال اليومي (بل هم قاموا، في كوبنهاغن، بتقليص حجم الطرقات التي تشقّ العاصمة على مرّ العقود، وعدّلوا التصميم المديني «الحداثي» الذي أقرّ بعد الحرب العالمية، والذي كان يفترض انتشار السيارات في كلّ منزل).

«إعادة التّوزيع» أو الخراب

اقتبسنا سابقاً من الهندي برابات باتنايك الذي يشرح كيف أنّ البنية التحتيّة ليست حياديّة، ولا هي «جيّدة» بالمطلق. لهذا السّبب لا يكفي أن تبني مشروعاً ضخماً ثم تنظر اليه بإعجاب وتقول إنّه انجازٌ وتنمية (تحضرنا هنا آلاف المشاريع «التنموية»، و«المدن الجديدة» والبنى التحتية التي يتمّ تدشينها دورياً في السّعوديّة، من غير أن تحصل تنمية، أو توسيع قناة السويس وبناء عاصمة جديدة كأولويات للنظام المصري اليوم). في حالاتٍ قصوى، كانت سكك الحديد في مستعمرات أفريقية قد بنيت حصراً لنقل المواد من منجم الشركة الأوروبية إلى المرفأ، ولا تمرّ حتّى بمدن وقرى أهل البلد، وقد اندثرت هذه الخطوط فوراً مع رحيل الأوروبيين. اليوم، في الوقت الذي تصرف فيه دولٌ فقيرة مثل مصر المليارات على بناء طرقٍ سيّارة (لمن يملك السيارات)، ومطارات وبنى تحتية حول المدن السياحية والمشاريع العقارية الجديدة، يُترك نظام النقل الجماعي وسكّة الحديد (وهو ضروري وبديهيّ في مصر كما في لبنان، إذ يتركّز 100 مليون مواطن على خطٍّ واحد تقريباً) لينحدر مستواه ويصبح استخدامه مرادفاً للفقر والخطر. بل إنّ الدولة المصريّة قد قلّصت حجم الشبكة فعلياً، وألغت عبر السنوات (عدا عن الخطوط «الخارجية»، كسيناء وفلسطين) عدّة خطوطٍ ريفيّة صغيرة، تتفرّع عن الخطّ الأساسي في الدلتا والفيوم وغيرها. هذه الخدمة البسيطة كانت تخدم المناطق الزراعية الداخلية بفعالية منذ ما قبل الثلاثينيات والأربعينيات، وكان الناس في تلك المناطق لا يحتاجون الى سيارات وشاحنات، لأن القطار الصغير كان يمرّ في أرضهم. رمزية هذه الأفعال هي في انعدام حساسية النخبة تجاه حاجات الفقراء، والطابع الطبقي للاقتصاد السياسي الذي يحكمنا ويفضّل فئات على أخرى. ولهذه الأسباب، فإنّ المشكلة في بلدٍ مثل لبنان هي أعمق من التقنية والتخطيط، وحلّها لا يُختصر ببساطة في أن يبني لك أحدهم قطاراً.
بصراحة أكثر، الخوف في لبنان هو ليس في أن لا تفعل الدولة شيئاً، بل العكس تماماً: أن تشمّر الدّولة عن ساعديها وتجتمع النّخب وتتوافق على فعل شيء. فتسحب مليارات الدولارات من أرصدتنا ومواردنا القليلة لبناء أوتوسترادٍ جديد، أو تطرح مشروع قطارٍ يعدّه خبراء أجانب ونستورده كاملاً من فرنسا. فلا يناسب حاجات لبنان، ويكلّف عشرة مليارات دولارات، ويخسر عند تشغيله ويبدأ، بعد سنوات قليلة من افتتاحه، مسار الانحدار والرداءة حتّى يكره النّاس النّقل العام (هذا إن لم يكن معدّاً لخدمة السيّاح والصهاينة، مثلاً، بدلاً من الموظّفين والفقراء). هنا، تنطبق مقولة فون هايك النيوليبرالية بأنّه من الأفضل أن لا تتدخّل الدّولة وأن تترك موارد الناس للناس حتى يتدبّروا أمرهم بفطرتهم، فهذا أفضل وأفعل من «تخطيط» النّخب الفاسدة. الكثير من مشاريع النّقل العام حول العالم، بالمناسبة، تخسر تشغيلياً ولن تردّ أكلافها يوماً وتحتاج بشكلٍ دائمٍ الى دعم، لهذا السبب فأنت يجب أن تكون دقيقاً وفعّالاً الى أبعد الحدود حين تصمّم نظاماً للنقل العام، إن أردت أن ينجح وأن تكون له استمرارية، وأن يلعب دوره الاجتماعي - وهذا من سابع المستحيلات في لبنان.

تقترح الدولة اليوم لحلّ أزمة السير شقّ طريقٍ جديدٍ للسيارات بين جنوب بيروت وشمالها، تقدّر كلفته بثلاثة مليارات دولار
بتعابير أخرى، لو شئنا تنفيذ مشروعٍ كالّذي أعلاه، فنحن تحتاج الى: اختصار النفقات الى الحدّ الأقصى، وأن نشحذ مواد البناء من إيران، ونتزلّف الى الإماراتيين حتّى يعطونا منحة، وأن نقنع الحكومة الصينيّة بأن توفّر شركاتٍ للتنفيذ بأسعارٍ متهاودة، ثم نبحث عن قروضٍ ميسّرة من أيّ مكان (من البنك الدّولي الى البنك الحديدي). المفروض، إضافة الى ذلك، أن نشغّل المشروع حين يكتمل بطاقمٍ كفوء ومستقيم، يفهم مهمّته الاجتماعية ويعمل بفعالية عالية - وكلّ ذلك حتى يكون لديك أملٌ بأن تبني نظاماً ناجحاً يمكن أن تراكم عليه للمستقبل. في الواقع، في السياق اللبناني، فإننا سنحصل على مشروعٍ سيّئ التصميم، يكلّف كأنّه نفّذ في أوروبا، وتستفيد منه أساساً النخبة المالية من شركات ومصارف (على الهامش: لمن وقع بالكامل تحت سحر «الخبير الأجنبي»، ويعتقد حقّاً أنّ «الحلّ العلمي» يتمثّل في أن تستدعي مهندساً أوروبياً، وهو سيدرس واقعك في عشر دقائق ويعطيك الحلّ الأمثل، فليتذكّر أن أفضل الخبراء الأجانب، في كلّ الأحوال، يعملون في مشاريع كبرى في بلادهم ولا يرسلونهم إلى لبنان وهايتي وسورينام – وأنت تريد أن تضع مستقبلك في أيديهم).
قبل ذلك كلّه، مشكلة السّكن والنّقل في لبنان هي جزءٌ من سياقٍ أوسع، كواقع أنّ في بيروت عشرات الآلاف من الشقق الفارغة، وأحياء كاملة بلا سكّان تقريباً، مقابل الازدحام والمعاناة في أرجاءٍ أخرى. «الوسط التجاري» للمدينة، بناطحات سحابه وأبنيته الفخمة، هو فارغٌ كبلدةٍ أميركيّة أُقفل فيها مصنعها الوحيد. أنا أذهب الى «وسط المدينة» فقط حين أريد أن أكون وحيداً وألّا يزعجني أحد. وحين تسير في وسط الشارع العريض الذي لا تدوسه السيارات، تشعر وكأنّك في فيلمٍ عن مدينةٍ غربيّة حديثة ضربها وباء واختفى أهلها فجأة (ووسط بيروت، بلا مبالغة، هو موقعٌ مثاليّ لتصوير أفلام «الزومبي» ونهاية العالم، ولن تحتاج الى إغلاق الشوارع لأجل التصوير، ولو ظهرت ــ بالصدفة ــ سيّارةٌ في الإطار، فإنّه من الأسهل محوها لاحقاً عبر الكمبيوتر).
هذا كلّه لأنّ العقارات في لبنان تلعب دوراً محدّداً في تراكم الثروة، لخدمة رساميل داخلية وإقليمية، والعقار هو وسيلة مضمونة لتخزين الأصول (فلا كلفة له والضرائب عليه قليلة، ومن السهل تسييله حين يرتفع سعره أو تحتاج إلى الهرب مقارنة بالاستثمارات «الحقيقية» المنتجة). بمعنى آخر، النظام القانوني لا ينظر الى الشقّة باعتبارها «مسكناً» والى العقارات من زاوية دورها الاجتماعيّ، بل أساساً كاستثمارٍ لمتموّلين محليين وأجانب، والقوانين مصممة كلّها لخدمة هذا الهدف وتسهيله.
في المقابل، وفي عالمٍ مثاليّ، لو فُرضت غداً ضرائب حقيقية على العقارات بحسب قيمتها، فإنّ كلّ شيء سيتغيّر: لن يتمكّن المستثمر من إبقاء شققه فارغة، وسيضطر لبيعها أو تأجيرها، وستنخفض قيمة العقارات في كلّ لبنان وقد تنهار، وينهار معها القطاع المصرفي، وهو سيكون أمراً جيّداً لأغلب النّاس. للتوضيح: المصارف في لبنان قد ورّطت، في السنوات الماضية، أكثر العائلات اللبنانية في قروضٍ عقاريّة قد تتحول الى ورطة جماعيّة في المستقبل، وهذه التعقيدات هي من الأسباب الكثيرة التي يجب أن تقنعنا بضرورة فرط النّظام المصرفي من الأساس، كحلٍّ وحيدٍ متبقٍّ، وأن نتعامل مع أكثر الدين (العام والخاص) على قاعدة «المسامح كريم».
هنا، في الخاتمة، قد يعطينا الإحصاء الأخير الذي قدّمه الزميل محمد زبيب، عن الودائع المصرفيّة في لبنان فكرةً جيّدة عن الخاسرين في هذا السيناريو: ثلاثون ألف مودعٍ تقريباً، لبنانيون وأجانب، ويملكون مئة مليار دولار في مصارف البلد، سيخسرون أرصدتهم، بينما تردّ الى أكثر من 2.7 مليون مودع (حصّتهم مجتمعين هي أقلّ من خمسين ملياراً) كامل ودائعهم بسهولة. بالنّسبة الى غالبية النّاس ــ والمنطق والأخلاق ــ فإنّ هذه الصفقة هي، بلا ريب، أكثر من عادلة؛ بل قد تستحقّ حرباً صغيرة. هذا، باختصار، هو ما يسمّى «إعادة التّوزيع»، وهي خطوتك الأولى الممكنة، في السياسة والاقتصاد، حتّى تبني يوماً ما «قطاراً للشعب» في بلدنا.




«الدّورة التنموية» والتكنولوجيا والسياق المحلّي: مثال عملي

لو أردت أن تحفر نفقاً أو خطّ مترو اليوم، فإنّ أكثر النّاس والمختصّين سيشيرون إلى ماكينات حفر الأنفاق العملاقة (TBM)، باعتبارها الوسيلة الأحدث والأفضل لهذه المهمات. الافتراض المُضمر هو أنّ عصر عمّال الأنفاق الجريئين، الذين يحفرون الصّخر ويفجّرونه، قد انقضى. حتّى دول العالم الثالث، من إيران إلى الهند، تستورد هذه المعدّات ــ الفائقة التعقيد والكلفة ــ التي تقوم وحدها بالحفر والتخلّص من الرّدم وبناء جدران الدّعم؛ يوجّهها عبر المجسّات عدد بسيطٌ من المهندسين الخبراء. في الحقيقة، إن هذه التقنية قد انتشرت في الغرب والعالم، لا لأنّها «الأفضل» أو الأسرع ضرورةً، بل لأنّها تختزل دور العمّال وتستبدل الجهد اليدوي الكثيف بالآلة (وفي الغرب، حيث اليد العاملة مكلفة، فإنّ الأولوية هي دوماً لتقليصها ما أمكن). ولكن من منظور «الدّول الفقيرة»، حيث البطالة منتشرة واليد العاملة متوافرة ورخيصة، فإنّ العكس يصحّ؛ بل أنت تحتاج إلى مشاريع كحفر الأنفاق تشغّل آلاف العمّال (وتفتح لشبابك الطامح مجالاً مهنياً مجزياً، وفيه خطرٌ وإثارة). «الطريقة النمساوية الجديدة» لحفر الأنفاق مثلاً، بأيدي عمّال مهرة، لا تقلّ فعاليّة وحداثة عن الماكينات الضخمة. بل أنت تقدر على تشغيل فرق عملٍ كثيرة تعمل طوال النّهار، وتحفر من عدة اتجاهات في آن واحد، وتنجز المهمّة بنحو أسرع من «الدودة» الميكانيكية. الحكمة هنا ليست في أن تشغّل أبناء شعبك بدلاً من المصنع الألماني فحسب، بل أن تدرّب خبراءك وعمّالك في مجالٍ خبرة محلية، يراكمون فيه، مشروعاً إثر مشروع، المهارات والقدرة. وحين تجرّب وتتعلّم، وتصبح لديك شركات كفوءة وفعّالة، تصدّر خبراتك إلى الخارج وتنافس في العالم، وهذا مختصر «الدّورة التنموية» وجوهرها.