منذ سنواتٍ قليلة، تشهد أرمينيا إقبالاً لافتاً من الشباب الأرمني اللبناني. بعضهم يزورها للترفيه، والبعض الآخر للاستثمار، وبعض ثالث بحثاً عن الاستقرار. ولذلك أسباب كثيرة، ليس أهمها الحنين. إذ يندرج إتقان اللغة الأرمنية كأحد أسباب اختيار أرمينيا وجهة للهجرة دون سواها، إضافة إلى سهولة الحصول على الجنسية بمجرّد إثبات أن صاحب الطلب من أصول أرمنية. وثمة أمور أخرى لا تقل أهمية، لها علاقة بسوء الأوضاع الاقتصادية في لبنان.
في هذا السياق، «الفارق شاسع بين البلدين»، هذا ما يقولونه. والدليل؟ في أرمينيا «كلّ شيء أرخص»، جملة يرددها من يقصد تلك البلاد من سياح ومستثمرين. إذ أن سعر شقة كبيرة أو منزل فخم، مثلاً، وسط العاصمة يريفان، يساوي نصف سعر شقة عادية في ضواحي بيروت. اليد العاملة والمواد الأولية والأرض «أرخص»، أيضاً، لمن يريد الاستثمار في الزراعة أو التجارة أو سواهما. حتى السياحة فيها «أرخص». من هذا المنطلق، يمكن القول إن «الدولة المنشأ» للأرمن نجحت في اعتماد سياسات لجذب الأنظار إليها في محاولة لاستقطاب السياح والمستثمرين، خصوصاً من الجاليات الأرمنية حول العالم.
في الجزء «اللبناني» المتعلّق بالاستثمار في أرمينيا، نجد، مثلاً، أن شركة جمع النفايات في يريفان من أصول «لبنانية»، وأن معملاً للشوكولا فضل يريفان على بيروت، وأن شركة بقاعية للبهارات تركت السهل في لبنان ونقلت زراعة الجوز إلى أراضٍ أرمينية.
مع ذلك، ليست أرمينيا وجهة للاستثمار فقط. اسباب عدة أخرى تكمن وراء رغبة الشباب الأرمن اللبنانيين بالتوجّه إلى هناك للعيش والاستقرار. ليزا واحدة ممن يفكرون بـ«العودة» إلى أرمينيا، من منطلق أن «كل أرمني يجب أن يكون له أرض أو أي شيء يربطه بأرمينيا. إنها بلدنا وأرضنا وأتمنى أن أعيش هناك. رغم أنني مواطنة لبنانية، أشعر بانتماء إلى أرمينيا. الحياة الكريمة قبل أي شيء».

يساوي سعر منزل
فخم وسط يريفان نصف سعر شقة عادية في ضواحي بيروت

يعرف هاروت تماماً أن أرمينيا «هي بلدي الثاني». لكن سوء تطبيق القانون في لبنان يجعله اليوم يفتّش عن إمكانية جعلها بلده «الأول». فبعدما زارها وحاول اكتشاف إمكانية العيش فيها أحبّها. مع ذلك، يفضّل هاروت التحدّث كـ«مواطن لبناني» لشرح رغبته بالذهاب إلى أرمينيا: «أنا كلبناني، وليس كأرمني، أتعرض للخذلان على كل الأصعدة. لا عمل أستطيع الاعتماد عليه هنا. سأهرب إلى أرمينيا أو أي بلد سواها. أريد فقط إنهاء كل ما لديّ لأغادر». يكمل: «كنت أفضّل البقاء هنا، حيث ترعرعت وكسبت التقاليد والعادات وحيث أهلي موجودون. الانتقال إلى حياة جديدة مع العائلة أمر غير سهل. لكن، للأسف، ليس واضحاً إن كان الوضع في لبنان سيتحسن. نسمع منذ عشرات السنين أنه سيتحسّن، ولكن لم يتحسن شيء».
آفو أيضاً كان في أرمينيا قبل أشهر. لم يكن يعرف عن ذلك البلد سوى ذكريات يرويها أهله. بعد زيارته له وجده «أفضل من لبنان». يعلم آفو أن «المعاشات ليست مغرية في أرمينيا، لكن المعيشة ليست باهظة». كان يفكر جدياً في الانتقال إلى هناك، لكنه يتريّث قليلاً لأنه «ما فيه هونيك حركة قوية. ما بنقدر نترك ونمشي». مع ذلك، لا يزال الموضوع «قيد الدرس»، خصوصاً أنّ «الطبابة والتعليم هناك مجانيان».
يختلف وضع آفو عن وضع مهير الذي استقر نهائياً في أرمينيا منذ 4 سنوات. يختصر الشاب تجربته بعبارة رددها أكثر من مرة: «الأمن ممسوك هون. ما حدا بيغلط مع حدا». لا ينكر ابن برج حمود أصله فـ«أنا لبناني أرمني. هيدي بلدنا وهيدي بلدنا»، لكن العيش هناك أفضل: «أعمل حالياً في العقارات والبناء، بعدما غادرت لبنان نهائياً لأسبابي الخاصة». 4 سنوات أسّس خلالها مهير عائلته الصغيرة... وبيته «مفتوح لكل الناس» كما يقول باندفاع المهاجرين نحو أبناء الوطن. يخبر عن مشاهداته في البلد الجديد «التقيت بلبنانيين هنا. جنّوا بالبلد. بلد أخضر. حرام لبنان يبطّل أخضر». على عكس المهاجرين الذين يغادرون في الحرب ويعودون للزيارة في السلم، يريد مهير أن يعود إذا حدث أي اعتداء على لبنان «أنا مستعد للعودة والدفاع عن لبنان. هاي بلدي. خربنا بلدنا بإيدنا». وسيعود يوماً، ممسوساً بحنينه والذاكرة.




18 ألفاً حصلوا على الجنسية

بلغ عدد اللبنانيين ممن حصلوا على الجنسية الأرمينية نحو 18 ألفاً. الحصول على الجنسية سهل ويبتّ خلال ستة أشهر بقرار رئاسي، بمجرد إثبات صاحب الطلب تحدره من أم أو أب أرمينيين. إلى ذلك، يمكن أي شخص أن يصبح مواطناً أرمينياً شرط العيش ثلاث سنوات في أرمينيا. طموح الحصول على الجنسية وجواز السفر الأرمينيين له أبعاد أكثر من الارتباط بالبلد الأم. فـ«الباسبور» يسمح لحامله بالتجول بسهولة والحصول على فيزا «شينغن» (تخوّل حاملها دخول غالبية دول الاتحاد الأوروبي) لخمس سنوات، وتسهيلات إضافية منها الدخول إلى دول الاتحاد الروسي وحوافز ضريبية في العمل والتجارة. حصول اللبنانيين على تأشيرة لدخول أرمينيا أمر سهل أيضاً، ويستغرق ثلاثة أيام عبر السفارة، او ثلاثين دقيقة في أي من منافذ الدخول إلى أرمينيا.