في 28 شباط غادر الرئيس سعد الحريري الى السعودية، ومساء 4 آذار رجع، راسماً مرحلة جديدة في علاقته بالمملكة بعد محنة الاحتجاز 18 يوماً. كلاهما لا يريد الرجوع الى الوراء في ما حدث، لكن من غير الواضح حتى الآن اي تطبيع ستسلكه العلاقة بينهما. ايهما اقنع الآخر بصواب وجهة نظره في مقاربة انتخابات 6 ايار كأحد البنود التي ناقشاها: ابتعاد الحريري عن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وتحالفه مع التيار الوطني الحرّ، أم مسعى الرياض الى اعادة ربط ما انقطع بين الرجلين وتعزيز دور جعجع وحصته على انه حليف اساسي لها والحليف المسيحي الاول؟
ثمة عنوان آخر غير محسوب في زيارة المملكة تكشّف على اثر عودة رئيس الحكومة. فور هبوطه زار الرئيس فؤاد السنيورة وتمنّى عليه ترشيح نفسه لانتخابات ايار. اتى الطلب في الوقت المتأخر، غير المجدي، خصوصاً في ظل مرحلة شهدت تعتيماً كاملاً لدور الرئيس السابق للحكومة، والكلام المتداول على نطاق واسع من ان لا مكان له في البرلمان المقبل. ردود الفعل الاولى على زيارة منزل السنيوة في شارع بْلِس ليل الاحد ان الحريري عاد في الظاهر برسالة صريحة، هي اعادة الاحترام الى موقع السنيورة ومكانته السياسية داخل تيار المستقبل وخارجه. بيد ان التعبير عنها بدعوته الى الترشّح في الوقت الخطأ، اعطى نتيجة معاكسة تماماً.
منذ عودته من الاحتجاز في الرياض في 22 تشرين الثاني، اقترن تسلّم الحريري قيادة تياره بحجب دور سلفه. لم يكن الامر كذلك في المدة الفاصلة ما بين انتخاب الرئيس ميشال عون و4 تشرين الثاني، رغم معارضة السنيورة التسوية المقترنة بذلك الانتخاب. ظل يترأس كتلة المستقبل واجتماعاتها. بعدما شاع عن دور سلبي له رافق مرحلة الاحتجاز، بدا ان ثمة محاولة لابعاده بعد اقصاء عدد من نواب تيار المستقبل الدائرين في فلكه عن الصدارة، وقيل انهم ــ مثله ــ سيبُعَدون عن البرلمان المقبل.
لم يكن في الامكان سوى توقّع عزوفه عن ترشيح نفسه لانتخابات دائرة صيدا ــ جزين. وهو ما فعله البارحة، لكن لاسباب تتجاوز تلك ــ المسهبة ــ التي اوردها في بيان العزوف، ترتبط مباشرة بمضيه في معارضة التسوية النافذة بين رئيسي الجمهورية والحكومة. لم تكن التصريحات المتبادلة بين الرجلين والافراط في تبادل المشاعر الشخصية، على اثر اجتماع الاحد، سوى اتاحة المجال امام الرئيس السابق كي يُخرج نفسه من سباق الاستحقاق تبعاً لحججه. مع ذلك احيطت دعوة الحريري ــ العائد لتوه من الرياض ــ اياه الى الترشيح بتساؤلات حيال مغزى الطلب ومصدره بإزاء شخصية عُرفت منذ عام 2005 بصداقتها الوطيدة، غير المشوبة بشكوك مرة، مع المملكة. كان رأس حربة سياستها في مواجهة سوريا في السنوات التالية، ورأس حربة مواجهة حلفاء سوريا اللبنانيين ايضاً من الداخل.
على ان مقاربة ترشيحه لمقعده الحالي في صيدا لن يفضي الا الى بضعة نتائج معلومة سلفاً:
1 ــ يدرك الحريري ان ليس في وسع تيار المستقبل في صيدا سوى الحصول على مقعد سنّي واحد، بينما سيؤول الآخر الى النائب السابق اسامة سعد بمعية الدعم الذي يقدّمه حزب الله وحركة أمل للائحته.

تيار المستقبل حسم
المفاضلة بوضع مقعد
صيدا عند بهية الحريري


2 ــ ترشّح السنيورة والنائبة بهية الحريري لهذين المقعدين على غرار انتخابات 2009، يعني ان سقوط احدهما حتمي، كون اصواتهما التفضيلية واحدة في صحن واحد هو ناخبو تيار المستقبل. في الموازاة لا يتحدّث رئيس الحكومة وتياره سوى عن الحريري العمّة مرشحته في الدائرة ــ وهو بذلك ثبّت مسبقاً المفاضلة ــ ما يؤول الى توقع بقائها هي في هذا المقعد.
3 ــ ليس من السهولة بمكان تلقف هزيمة مدوية للسنيورة المرشح، كما لو ان المقصود تقويض حياته السياسية بخسارة جسيمة كهذه في انتخابات شعبية، كِبريتها التيار نفسه. ما بين عامي 2005 و2008 كان القائد الفعلي لقوى 14 آذار في الداخل، وهو على رأس حكومة الغالبية المنتصرة في الانتخابات النيابية. بسهولة استوعب استقالة الوزراء الشيعة وقفز فوقها وتمسّك ببقاء حكومته، هو المحاور الرئيسي المسموع الكلمة امام المجتمع الدولي في معظم ملفات المرحلة تلك لاسيما منها التحقيق الدولي ثم المحكمة الدولية، الى قرارات مجلس الامن حيال ترسيم الحدود والعلاقات الديبلوماسية مع سوريا، والمواجهة الصريحة والمباشرة مع سلاح حزب الله. كان ايضاً واجهة الانتقال في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008 وصولاً الى الانتخابات النيابية السنة التالية، مفسحاً الطريق امام الحريري كي يدخل الى السرايا. في غياب الحريري في السنوات الثلاث في عمر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ما بين عامي 2011 و2014، كان في صدارة تيار المستقبل يقود معارضتها.
4 ــ ردد بعض المعلومات ان الحريري طرح عليه في اجتماع الاحد الترشّح في احدى ثلاث دوائر: بيروت الثانية، زحلة، صيدا. جوابه ان من غير الملائم لبيروت وجود صيداويَّين فيها (هو والحريري)، في زحلة وجوده يسيء اليه. في صيدا خاسر حتماً.
5 ــ مع ان دعوته الى الترشح انطوت على محاولة تعويض معنوي بارد، الا ان خسارته المحتومة انتخابات صيدا ليست بدورها سهلة التبرير. ستجد ابسط تفسير لها اسقاط كل ما مثلته الحقبة السياسية التي تزّعم فيها السنيورة السنّة وليس تيار المستقبل فحسب، في مرحلة كان شركاؤه في قوى 14 آذار لا يعثرون في الحريري سوى على الوارث الذي يتدرّج في بطء وكسل كي يخلف والده الراحل. وهو مغزى اصطفاف النائب وليد جنبلاط وجعجع والرئيس امين الجميّل وراءه واستمرار علاقتهم الوثيقة به الى الآن. على ان اسقاطه سيكون بأصوات ناخبي تياره بالذات التي ستذهب الى النائبة الحريري، وليس باقتراع الخصوم.
هزيمة كهذه، بدلالاتها في الداخل السنّي وخارجه، اكثر وقعاً من تلك التي اصابت الرئيس سليم الحص ــ استاذ السنيورة في الجامعة الاميركية ــ عندما اسقطه التصويت السنّي وهو على رأس الحكومة في انتخابات 2000. كانت تلك المرة الاولى في تاريخ لبنان يُهزم رئيس للحكومة في انتخابات نيابية، في مواجهة منافسه الرئيس السابق رفيق الحريري يقود جرافة هائلة من الامكانات والمال والتجييش ناهيك بالادارة الرديئة للرئيس اميل لحود. ثمة نظراء للسنيورة، رؤساء سابقون للحكومة، هزمتهم انتخابات نيابية عامة كالرئيسين صائب سلام وعبدالله اليافي عام 1957، واليافي عامي 1964 و1972، والرئيس سامي الصلح عامي 1960 و1968، كانوا في غمرة المواجهة مع خصومهم في اللائحة كما في رأس الدولة.
ليست هذه حال انتخابات صيدا، اذ يقف الخصم وراء الظهر. ليست كذلك حال السنيورة الموصوم بحقبة يختصرها اسمه.