رغم كل الضّغوط السّياسية التي مارسها "فريق 14 آذار»، لقطع العلاقات الديبلوماسية بين بيروت ودمشق منذ اندلاع الأحداث السورية في عام 2011، فرضت الوقائع نمطاً مختلفاً من العلاقات بين البلدين بمعزل عن مسمّياتها.
قبل الأزمة الأزمة السورية وبعدها، لا مهرب من وجود تداخل سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي بين البلدين، بحُكم الجغرافيا والتاريخ والاجتماع. تداخُل لا قدرة لأحد على تجاوزه. ومهما كابر البعض أو حاول بناء جدران بين البلدين، لكن الوقائع تفرض نفسها في النهاية على جدول أعمال الجميع.
لو عدنا إلى مرحلة ما بعد عام 2005 وكيف فرضت طوابيرالشاحنات اللبنانية على الدولة اللبنانية أن تتوسل وتتواصل. الأمر نفسه يسري على قضية تصدير الزراعات والمواسم اللبنانية. لا بد من اتباع آليات إدارية وقانونية، تؤدّي في نهاية المطاف إلى إعادة وصل ما انقطع، ولو تدريجياً. فتح السفارة اللبنانية ووجود سفير لبناني مقيم في دمشق خطوة في هذا الاتجاه. آليات التواصل بين الحكومة اللبنانية ممثلة بأكثر من وزارة من وزاراتها أو مؤسساتها العامة وبين السفارة السورية المرتبطة بوزارة الخارجية السورية، أيضاً خطوة في الاتجاه نفسه.
القرار الذي اتخذته الحكومة اللبنانية، بشأن تسجيل الولادات السورية، أحدُ أشكال هذا التواصل، علماً أن وزير الداخلية نهاد المشنوق قال لـ«الأخبار" إن "لا ارتباط بين الأمرين، فالوزارة تقوم بإرسال اللوائح إلى وزارة الخارجية، التي ظلّت على تواصل مع السفارة السورية». لكن القرار "يعد إجراء وقائياً منعاً لظهور جيل جديد من مكتومي القيد من شأنه أن يفتح الباب مستقبلاً على التجنيس أو التوطين». هذا الهاجس، يُعتبرُ منذ سنوات أحد أعقد تداعيات اللجوء السوري إلى لبنان نتيجة الأزمة السورية التي ستدخل قريباً عامها الثامن. ولذلك، كانت هذه الظاهرة محور رصد في ضوء ازدياد أعداد الولادات السورية غير المُسجلة بسبب دخول عدد كبير من اللاجئين السوريين بصورة غير شرعية، وعدم امتلاكهم أوراق ثبوتية، وافتقارهم إلى إقامات قانونية من الدولة اللبنانية. أمام هذا الواقع، وجدَ المُجتمع اللبناني نفسه أمام جيل جديد مكتوم القيد.
تكمن المُشكلة الأساسية في أن أرقام الوافدين السوريين إلى لبنان غير محددة. المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تتحدث عما يزيد عن مليون ومئة ألف مُسجلين لديها. ولكن الرقم "أكبر" كما يؤكد المتابعون مستندين إلى أن أعداداً كبيرة من النازحين غير مسجلة. وفي نهاية تشرين الأول الماضي، ذكر عضو كتلة التنمية والتحرير ياسين جابر أنه "مع ارتفاع وتيرة الولادات السورية في لبنان، تجاوز عدد الأطفال السوريين غير المسجلين حاجز الـ 260 ألف طفل سوري».

مرجع رسمي: عدد الأطفال السوريين غير المُسجلين
تجاوز عتبة الـ 120 ألفاً


غير أن هذا الرقم غير مُثبت في أية دائرة رسمية بحسب جابر، فيما يتحدث مرجع رسمي لبناني واسع الاطلاع لـ«الأخبار" عن 120 ألف ولادة سورية وفق سجلات وزارة الداخلية، أما إحصاءات مفوضية شؤون اللاجئين ما بين آذار 2011 وكانون الأول 2014 فتؤكد أن عدد الولادات السورية بلغ حوالى 45 ألف طفل سوري.
التضارب في الأرقام، مردّه غياب المرجعية الرسمية اللبنانية المُمسكة بالملف، علماً أن إحصاءات مفوضية شؤون اللاجئين تشير إلى أن 70 في المئة منهم "لا يمتلكون شهادة ولادة أو أيّ أوراق ثبوتية، وأنهم لم يُسجلوا بسبب عدم توافر المستندات المطلوبة من السجلات المدنية، لا سيما أن كثراً هربوا من سوريا دون أن تتوافر لديهم أي أوراق رسمية، زِد على ذلك عجز اللاجئين عن دفع رسوم الإقامة الرسمية». بطبيعة الحال، من لا يملكون إقامات رسمية، لا يستطيعون تسجيل أطفالهم حديثي الولادة لا في السفارة السورية ولا في دوائر وزارة الداخلية اللبنانية، الأمر الذي قد يحرمهم لاحقاً من إثبات جنسيتهم الأصلية. وتتوافق أرقام المفوضية مع دراسة أجراها معهد عصام فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية والتي بيّنت أن 20 في المئة من العدد الإجمالي للاجئين السوريين أتمّوا عملية تسجيل أولادهم في دوائر النفوس، و2 في المئة منهم فقط أتموا التسجيل في دائرة وقوعات الأجانب في بيروت، مشيرة إلى أن "عدد الولادات للسوريين في لبنان منذ بداية الأزمة تناهز 100 ألف مولود وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة».
في هذا الإطار، وبعد تسلّم المدير العام للأحوال الشخصية العميد الياس الخوري مهامه، أصدر قراراً يهدِف إلى تبسيط إجراءات تسجيل المواليد السوريين من خلال إعفائهم من شرط سند الإقامة. وبذلك يكون قد انتهى فصلٌ من فصول الأزمة كان يقضي بحرمان هؤلاء من تسجيل أولادهم. وهو حرمان كان قد طال مئات الولادات بتدبير شفهي مُخالف للقانون وغير إنساني، كانت المديرية العامة اتخذته في السنوات الماضية. ولكن الخطر كان لا يزال قائماً، خصوصاً أن المواليد الذين حُرموا من حقهم في التسجيل قد تجاوز عمرهم السنة الواحدة، وقد أُقفل الباب أمامهم بتنفيذ وثائق الولادة بشكل إداري، وبات لزاماً على ذويهم مراجعة القضاء لتسجيل الولادات. إذ بحسب القانون اللبناني "بعد مرور سنة على الولادة لا يعود من الممكن تسجيل المواليد بالصورة الإدارية، بل يتطلّب الأمر مراجعة المحاكم المدنية المختصة».
غير أن وزير الداخلية حسم الأمر، فرفع كتاباً إلى مجلس الوزراء شارحاً الموضوع ومُشدداً على أن "المعالجة تتطلّب اتخاذ تدابير استثنائية تقضي بالإتاحة لهؤلاء النازحين تسوية أوضاع أولادهم عن طريق تسجيلهم في دوائر النفوس أو سجلات الأجانب، ومنحهم لهذه الغاية التسهيلات القانوينة اللازمة بحيث يُصبح بإمكانهم تسجيل أولادهم لدى سلطات بلدانهم المختصة والحصول على المستندات الثبوتية اللازمة من بلدهم. وذلك استناداً إلى رأي صادر عن هيئة التشريع والاستشارات اعتبر أنه "في ظل غياب أيّ تشريع يُنظم واقعة تسجيل ولادات الأجانب السوريين في سجلات دائرة وقوعات الأجانب أو سجلات ودوائر الأقسام، وحيث أن وزارة الداخلية – المديرية العامة للأحوال الشخصية هي المرجَع المختص في هذا المجال، وموضوع التسجيل يدخل ضمن السياسة العامة للدولة»، فإنه "يجوز تكليف وزير الداخلية اتخاذ القرارات اللازمة لوضع آلية تسجيل ولادات السوريين». وبناء عليه، صدر قرار مجلس الوزراء بتكليف المشنوق باتخاذ القرار اللازم لوضع آلية التسجيل وفقاً لقرار مجلس الوزراء على أن يُصار إلى إرسال اللوائح المتعلقة بالولادات المنفّذة إلى وزارة الخارجية والمغتربين لإبلاغها إلى الجهات السورية المختصة. وبالفعل دخل قرار المشنوق أول من أمس موضع التنفيذ، بعد أن أعطى توجيهاته للمدير العام للأحوال الشخصية السير بالقرار.