للوهلة الأولى تتساءل: ما الذي حمل ميشال طراد، ابن قضاء بشري، على مقاومة غزو العصابات الصهيونية في فلسطين؟ في الوعي الجماعي، ولأسبابٍ مختلفة، ليس مألوفاً إلا أن يكون «البشراني» قواتياً. علينا أن نعود بالزمن كثيراً. «السلطان»، كما هو لقبه حتى اليوم، يتذكر بالتفصيل معركة الدفاع عن حيفا، «خدمة للقضية العروبية ودفاعاً عن العرب»، يقول. وتقول عيناه إنّ بعضاً من السبب هو حماسة الشباب التي كانت تدبّ فيه وتدفعه إلى المغامرة.
«1... 2... وهذه الـ 10»، يعدّ حبات مسبحته التي يصنع، رغم نظره الشحيح، كلّ بيتٍ منها على حدة، ليجمعها لاحقاً. يستوي في جلسته، ويقبض بيده على عكّازه ليعود في الزمن تسعة وستين عاماً إلى الوراء، إلى عام 1948. ترك الجيش اللبناني، وذهب إلى فلسطين بحثاً عن عمل. تزامن وجوده هناك مع حملات الهجرة التي نظمتها الحركة الصهيونية لليهود القادمين من روسيا، بمساعدة الجيش الإنكليزي في فلسطين. لم يفكّر مرتين. هناك، التحق بجيش المقاومة بقيادة رئيس بلدية حيفا. من ذاكرته التسعينيّة ينكش قول أحد رفاقه مساءً قبل المعركة:
تهيّج أيا بحر الروم
والطم عالشواطئ دوم
عا شطوطك مينا حيفا
يا منغرق يا بدنا نعوم
وصل المهاجرون اليهود إلى الميناء ليلاً، وتوجّهوا إلى حيّ الهدار «أعلى نقطة في حيفا»، كما يتذكّر. فجراً بدأ الوافدون، بمشاركة من وصلوا الى حيفا قبلهم، هجومهم لاحتلال المدينة. بدأ الهجوم من حي وادي الصليب «وكان هجوماً قويّاً». الهجوم لم يكن في حسبان العرب، وتحديداً «جيش الإنقاذ العربي» الذي طلب الدعم، فكان ميشال واحداً ممن لبّوا النداء. مع شروق الشمس، توقّف الغزاة عند الطواحين بعدما احتلوا جزءاً كبيراً من المدينة، ومنعوا وصول النجدة عبر الشواطئ إلى المقاومين.

كان ميشال
واحداً ممن لبّوا نداء «جيش الإنقاذ العربي» الذي طلب الدعم في حيفا
من الشرق، فتحوا جبهةً أخرى، «وعند بناية الياس الخوري»، كما يقول، كان الصهاينة قد أصبحوا يشرفون على المدينة. «بدأوا القصف من فوق على المقاومين». طلب المقاومون ذخيرةً، فلم يجدوا رئيس البلديّة الذي كان مسؤولاً عن المخازن. قيل إّنه في مهمّة في عكا، وعند فتح المخازن وجدوها فارغة من أي سلاح أو ذخيرة. «سرت شائعة حينها أنّ خيانةً ما قد جرت». السلاح الأبيض كان الوسيلة الباقية للمقاومين لمحاربة الصهاينة في ساحة الحناطير في حيفا. لم تدم المعركة طويلاً. بعد هدنة ۳ ساعات لم تنطفئ فيها النيران، لم يستطع العرب الصمود وبدأوا بالتراجع. سقطت المدينة.
يمرّر «السلطان» أصابعه على شاربيه، يفتلهما ويتابع السرد: «التجأت مع مقاتلين آخرين عزّل من السلاح الى الميناء الذي كان تحت سيطرة الانكليز. كانوا يعرضون الحماية على من يلتجئ إليهم شرط أن يترك سلاحه، إذا كان مسلّحاً». رحل الإنكليز من التجأ إليهم بالباخرات إلى عكا. بعد إقامة قصيرة في عكا، سقطت قرية الكساير. أعزل بلا بندقيّته التي تركها في حيفا، التحق بـ«النجدة» لاستعادة الكساير. فعل ذلك خلسةً، لأنّهم لم يريدوا شخصاً من دون سلاح. هناك، يروي كيف انتزع رشاش الـ FM موديل 1906 من يد متطوع كان يستخدمه بطريقة خاطئة. جذبت مهاراته العسكرية في استخدام الرشاش المسؤول عنه، فدعاه الأخير إلى مقابلة القائد شكيب وهّاب الذي «كان يقود فيلقاً من المقاتلين الموحّدين الدروز ضدّ الغزاة». هكذا، بات «السلطان» في صفوف المجاهدين الدروز بقيادة وهاب، نزولاً عند طلب هذا الأخير، وانتقلوا إلى قرية شفا عمرو ثمّ المغار. ومن المغار إلى المالكية حيث كان عليهم أن يحلّوا مكان «الملازم زغيب» الذي قتل (خانته ذاكرته في تذكّر الاسم الأول للملازم، ويرجح أن يكون الملازم الأول في الجيش اللبناني الشهيد محمد زغيب).

السلاح الأبيض
كان الوسيلة الباقية للمقاومين لمحاربة الصهاينة في ساحة الحناطير

بعد الانسحاب من المالكية، وعلى طريق عيطرون، التقى بالجيش اللبناني وبالكومندان جميل الحسامي الذي كان قد خدم بإمرته في الجيش في مرجعيون. على الخريطة التي يحملها الحسامي، شرح له «السلطان» تفاصيل عسكريّة عن معركة المالكية التي شارك فيها. «طلب مني الحسامي أن أعود إليه في اليوم التالي، لكنني عدت بعد أربعة أيام». بكامل سلاحه، دخل إلى مكان وجود الكومندان الذي عاتبه على خروجه من الجيش اللبناني، وسلّمه كتاب توصية لأحد الضباط لإعادته إلى صفوف الجيش. لكن «طيش الشباب» عينه الذي أخذه إلى حيفا منعه من تقديم الكتاب والعودة إلى الجيش.
نسأل ميشال، الذي صار عمره 94 عاماً اليوم، وهو أكبر رجلٍ في قريته برحليون، من أين اكتسب لقبه فيجيب أنّه «سلطن حالو وما حدا ردّو». ويعيد الـ«ردّة» التي قالها لخصميه عندما غلبهما في لعبة الـ«400»:
أنا سلطان وانتو بتعرفوني
ولو مَنكُن غشم ما بتلعّبوني
أنا سلطان، سلطان المنايا
بيوم الحرب تبقو تطلبوني
واحد، اثنان، ثلاثة... يتابع عد بيتٍ جديدٍ من مسبحته مرندحاً «يا فلسطين جينا لك، جينا وجينالك جينالك».