في 30 تشرين الثاني 2017، أطلقت هيئة إدارة السير «استدراج عروض» لتلزيم «تركيب وصيانة وبرمجة نظام التحكّم بإشارات المرور». دفتر شروط هذه الصفقة تضمن بنوداً تفتح المشاركة، نظرياً، أمام الشركات الأجنبية، وتقفلها عملياً أمام الشركات المحلية باستثناء شركتين تحملان خبرة تشغيل إشارات المرور. مسار فضّ العروض فضح «المستور»، إذ تبيّن أن هيئة إدارة السير تفضّل شركة معيّنة وتسعى لتلزيمها بالتراضي، بعد ثلاث محاولات تلزيم بطريقة استدراج العروض!
بدأت الشكوك تحوم حول هذه الصفقة يوم الكشف عن دفتر الشروط. فقد اشترطت المادة 11 منه على العارضين إبراز إفادة خبرة عن عقود منجزة في مجال صيانة وتشغيل ودمج وبرمجة أنظمة إشارات المرور، على ألا تقل قيمة العقد الواحد عن مليون دولار سنوياً. وحدّدت المادة 12 الملاءة المالية للشركة العارضة بقيمة مليون دولار أميركي، فيما نصّت المادة 13 على إبراز إفادة خبرة من شركة «Televent – Kapsch» الإسبانية أو أي شركة أخرى مصنّعة لنظام Optimus بتشغيل وصيانة وبرمجة البرامج العائدة لهذا النظام لمدّة تتجاوز سنة مصدقة وفقاً للأصول. وتحدّثت المادة 15 عن شهادة في نظام إدارة الجودة أيزو 9001، وأن تكون الشركة المحلية لبنانية منذ أكثر من 5 سنوات على الأقل.

لمَ هذه الشروط مثيرة للشبهات؟

في الوقائع، فازت شركة Televent – Kapsch مع شريكها المحلّي «تحالف بريدي ــ أبو عزّي» بصفقة توريد وبرمجة إشارات المرور ــ نظام المراقبة التلفزيوني، وهذه الشركة الاسبانية وحدها تحمل حقوق استعمال البرنامج لتشغيل إشارات المرور ونظام المراقبة التلفزيونية. هذا هو السبب وراء تضمين دفتر الشروط إفادة الخبرة الواردة في المادة 13 من دفتر الشروط، لكن ذلك يعني أنه لا يمكن الفوز بعقد تشغيل وصيانة إشارات المرور من دون الحصول على إذن الشركة الاسبانية، ما يجعل الخبرة متوافرة حكماً لأيّ متقدّم قادر على إدارة برامج معلوماتية. أما المادتان 11 و12 فلا قيمة فعلية لهما بالصيغة التي تردان فيها، ولا تشكّلان عنصراً لاستقطاب شركات أجنبية تشارك في التلزيم، نظراً إلى كون الصفقة المعروضة ليست مغرية، بل تصل قيمتها إلى 2.5 مليون دولار فقط. هذا الرقم لا يغري الشركات الأجنبية، بل قد يكون مغرياً لشركات لبنانية فقط.

قيمة الصفقة 2.5 مليون دولار ما
يجعلها غير مغرية للشركات الأجنبية



وما يعزّز الشبهات أن طريقة التلزيم لا تنطبق على طبيعة الصفقة. فقد آثرت هيئة إدارة السير أن تجري عملية التلزيم بطريقة استدراج العروض، وليس بطريقة المناقصة المفتوحة. تعريف استدراج العروض في المادة 145 من قانون المحاسبة العمومية هو الصفقات الطارئة أو خدمات يقدّمها عدد محدود من الشركات. حجّة الهيئة في طريقة التلزيم أنها تريد خدمات فنّية معيّنة لا يمكن أحداً القيام بها، فيما الواقع أن أي شركة معلوماتية بمستوى مقبول قادرة على إدارة هذا النظام، بعد الاستحصال على إذن الشركة الاسبانية.
تتعزّز الشبهات مع بدء مسار فضّ العروض. فقد تقدّمت ثلاث شركات للمشاركة في التلزيم، وحدّد موعد فضّ العروض في 14 كانون الأول 2017، لكن بحجّة التعمّق في دراسة الملفات، تأجّل موعد فضّ العروض إلى 19 كانون الثاني. يومها، تبيّن أن المنافسة هي بين اثنين هما: «نيد» المشغّل الحالي، وتحالف «مؤسسة نزيه بريدي ــ مؤسسة منير أبو عزّي» المشغّل السابق، أما الشركة الثالثة فهي كانت شركة مغمورة وليست معروفة، ولا يستبعد المطّلعون على هذا النوع من المناقصات أن تكون مجرّد غطاء.
لجنة فضّ العروض المشكلة من موظفين في هيئة إدارة السير، لم تكتب أيّ محضر، ولم تبلغ العارضين سوى فشل استدراج العروض، لكن تحالف «بريدي ــ أبو عزّي» سأل عن سبب رفض عرضه، فتلقّى جواباً مفاده أن الكتاب الذي أبرزه من شركة Kapsch غير مصدّق وفقاً للأصول.
بطبيعة الحال، كان سلوك لجنة فضّ العروض غريباً، إذ إن شركة «بريدي ـــ أبو عزّي» تحمل إفادة خبرة من هيئة إدارة السير تجزم بأنها نفذت لحساب الهيئة أشغالاً، من ضمنها مهمة صيانة نظام التحكّم Optimus.
مسار التلزيم بدأ ينكشف أكثر بعد إعادتها للمرة الثانية. ففي 16/1/2018 أعلنت المديرة العامة لهيئة إدارة السير هدى سلوم رغبتها في إعادة إجراء المناقصة بطريقة استدراج عروض، على أن يكون آخر موعد لتقديم العروض هو عند الـ12 من ظهر الخميس الواقع فيه 2/1/2018، وأن يبدأ فضّ العروض في 2/2/2018 في مبنى مصلحة تسجيل السيارات في منطقة الدكوانة المبنى رقم 1.
مع إغلاق باب استقبال العروض، تبيّن وجود عرضين فقط. الشركتان المتنافستان نفسيهما، أي «نيد» وتحالف «بريدي ـــ أبو عزّي». هذه الأخيرة جاءت هذه المرّة جاهزة بعد تصديق مستند الخبرة وفق الأصول، لكنها فوجئت بتأجيل نتائج فضّ العروض ليوم 6/2/2018 والطلب الآتي: بناءً على تعليمات المديرة العامة لهيئة إدارة السير، طلب أحد موظفي الهيئة تزويده بالسير الذاتية للعاملين المقترحين في المشروع، «وهو أمر لا ينصّ عليه دفتر الشروط، لكنها أرسلت بناءً لهذا الطلب وسجّلت بتاريخ 6/2/2018 تحت الرقم 5721/2018»، بحسب الشكوى التي قدمتها الشركة لوزير مكافحة شؤون الفساد نقولا تويني.
المفاجأة الأكبر كانت بعد تقديم السير الذاتية، إذ «التأمت لجنة فضّ العروض بجلسة سريعة، وتلا فيها رئيس لجنة فضّ العروض البيان المقتضب الآتي: حيث إن الإدارة رأت نواقص في ملف المجموعة المندمجة (بريدي ــ أبو عزّي» فرفض العرض، فإن اللجنة لن تفضّ العروض المالية». وبحسب الشكوى، فإن «الجلسة انتهت من دون محضر، وتقدمنا باعتراض لم نتلقَّ عليه أيّ جواب».
في الواقع، إن هذا المسار يثير الأسئلة الآتية: لماذا لم تسطر الإدارة محضراً بالنواقص قبل الإعادة؟ ولماذا تستعمل هيئة إدارة السير الأسلوب الشفهي وغير الرسمي في التخاطب مع الشركات العارضة؟ ألا يشكّل ذلك مدخلاً للفساد؟ لماذا تتدخل الإدارة أصلاً بلجنة فضّ العروض؟ لماذا تنكر الإدارة إفادة من شركة تعاقدت معها في 2013 و2014؟ هل الهدف إعادة المناقصة ثلاث مرات لتشريع عقد الصفقة بالتراضي؟ الشكوك تزيد مع وجود تاريخ «أسود» في مناقصات هيئة إدارة السير في تلزيمات مختلفة.