لن تكون فيضانات الأنهار، كما حصل قبل يومين بقاعاً شمالاً، الأخيرة. لطالما تم التحذير من الاعتداءات على مجاري الانهر التي تعتبر المسببّ الرئيس لفيضانها. ولطالما قصّرت الوزارات المعنية، لا سيما وزارة الطاقة والمياه، في حماية الانهر من التعديات، وقصّرت وزارات اخرى وبلديات في تنظيف المجاري، لتقوم الانهر، بنفسها، بتنظيف نفسها بين الحين والاخر.
بعض المشككين في الدور التاريخي لوزارة الطاقة والمياه يعتبرون أن هناك تعمّداً في الاهمال، لكي تحصل تلك الفيضانات، فيأتي من يقول بضرورة انشاء سدود سطحية، لوقف جريان المياه بقوة شتاءً، والاستفادة منها صيفاً، معتبرين أن جريان المياه الى البحر، هدر! ليس لان هذا الخيار هو الاقرب الى المنطق والحقيقة والطبيعة وحاجات الناس، بل لتنفيع الشركات الهندسية الكبرى التي لطالما موّلت الدراسات لهذه الوزارة ووضعت سياساتها المائية وخططها العشرية وغير العشرية... لتعود وتلتزم المشاريع بشكل أو بآخر. وقد تم إهمال الكثير من الدراسات التي تتحدث عن تحويل جريان المياه في بعض المناطق وانشاء اقنية خاصة والاستفادة منها لتغذية خزانات المياه الجوفية، في مثل هذه الايام، ليتم الاستفادة منها صيفاً. كما كان البعض يلجأ الى تبطين الانهر بالباطون (حيطان دعم باطونية) لمنع تحوّل المياه الى البلدات والمدن بعد أن تفيض، بدل البحث في أسس المشكلة، ومعالجتها من مصادرها.
اذا رجعنا الى الدراسات العلمية المحايدة، فهي تجمع على أن أسباب الفيضانات هي عوامل التعري فوق قمم الجبال اولا، والقطع الجائر للثروة الحرجية وانجراف التربة في مراحل تاريخية متعددة ثانياً. وبدلاً من الصرف على إنشاء حيطان الدعم الباطونية لحماية ضفاف الانهر، كما حصل تاريخياً لا سيما في بيروت وطرابلس، كان يفترض اعادة تشجير القمم والقيام بجرف اقنية في أماكن مختارة لمنع سيل المياه بسرعة والتسبب بفيضانات.
وقد ثبت أن حل تغليف الانهر بالباطون منع الارض من امتصاص جزء من هذه المياه التي كانت تغذي المياه الجوفية اثناء جريانها، مما ساهم في خفض تدفق المياه العذبة الى المياه الجوفية وتدني منسوبها وزيادة تملّحها في الكثير من المناطق اللبنانية. كما أن زيادة شق الطرقات في الغابات والاحراج، وزيادة مساحات الباطون والاسفلت على حساب المساحات الخضراء، يزيد من جريان المياه ويمنع التربة من امتصاصها والاستفادة منها… لتصح مقولة «من يزرع الباطون والاسفلت يحصد الفيضانات».
على أي حال، ليست الهيئة العليا للاغاثة ولا وحدة إدارة الكوارث هي الهيئات الصالحة لمعالجة هذه المواضيع. كما يجب الخروج من منطق «التعويضات» التي هي في مجملها تنفيعية وانتخابية، والدخول في معالجات جذرية. فقضايا الفيضانات مرتبطة بمشاريع التنمية الحقيقية وسياسات وزارتي الزراعة والطاقة والمياه السليمة، أكثر من أي شيء آخر.
والموضوع لم يعد يحتاج الى دراسات بعد تلك قام بها منذ سنوات «المجلس الوطني للبحوث العلمية»، لا سيما دراسة العام 2014، التي شملت المناطق التي تعيش خطر حصول فيضانات عند مجاري الأنهر، بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتي بينت ان الفيضانات هي من بين أكبر عشر كوارث طبيعية تؤثر على لبنان وشعبه واقتصاده.
واذ تتسم غالبية الأنهار بخصائص مشتركة كونها تسير في الأودية، وتتجه في معظمها لكي تصب في البحر الأبيض المتوسط، فتمدّه وتغذيه وتحيي كائناته، لكي لا يتحول الى بحر «ميت»، ليس بين المعالجات بالتاكيد وقف جريان المياه عبر السدود السطحية على الانهر وتحدي ارادة الطبيعة والتعدي على النظم الايكولوجية التي يتميز بها لبنان... بل بتغيير السياسات الإنمائية، نحو إنماء «متكامل» حرجي وزراعي وسياحي، وليس انماء «متوازناً»، طائفياً ومذهبياً، لا يأتي إلا بالفيضانات والكوارث.