غالباً ما يرتكز أي تحليل للميزان التجاري اللبناني على الجانب الاقتصادي، إنما التمعن بالدول التي يصدر إليها لبنان الغالبية الساحقة من إنتاجه تظهر تقصيراً سياسياً مخيفاً وخاصة في ما يتعلق بسياسته الخارجية التي لم تحسن استثمار الوجود الفاعل والمؤثر للاغتراب اللبناني حول العالم، إضافة إلى تفعيل التعاون مع العديد من الدول المؤثرة عربياً وعالمياً، كما تطرح تساؤلات عن مدى التعاون بين الوزارات المعنيّة لكي يتكامل النشاط السياسي مع النشاط الاقتصادي.
الخليج في كفة... والعرب في كفة

خلال أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية، أبلغ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفد الهيئات الاقتصادية الذي زاره والذي عبّر عن قلقه من لجوء السعودية إلى ترحيل اللبنانيين ومقاطعة لبنان اقتصادياً بأنه يجب عليهم "البحث عن أسواق جديدة" وبأن"وجع ساعة ولا كل ساعة".
الأرقام تفيد بأن مخاوف الوفد مشروعة وإن كانت لا تبرئهم من التقصير في البحث عن أسواق جديدة وترك لبنان رهينة اقتصادية في يد أي دولة، سواء كانت السعودية أو غيرها في حال نشوء أزمة معيّنة. فبحسب إحصائيات الجمارك اللبنانية خلال الفترة المذكورة أعلاه، بلغت صادرات لبنان إلى دول الخليج حوالى 658 مليون دولار، أي ما يوازي 25% من صادرات لبنان.
في المقابل، لا تتخطى مجمل صادرات لبنان إلى باقي الدول العربية عتبة الـ 604 ملايين دولار. عدا عن أن الرقم يكشف التفاوت الهائل في "هوى" الصادرات اللبنانية إلى الدول العربية، فإنه أيضاً يكشف تقصيراً هائلاً تجاه بعض الدول العربية المحورية، سواء من حيث حجمها الجغرافي والديموغرافي كما لناحية العلاقة السياسية بين لبنان وهذه الدول التي لطالما وقفت إلى جانبه في حالات الخلافات العربية – العربية التي كان لبنان محورها أو ضحيتها.
في هذا الإطار، لم يصدّر لبنان إلى مصر، الدول العربية الأكثر سكاناً إلا ما قيمته 58.5 مليون دولار فقط. كما أن قيمة الصادرات إلى دول المغرب العربي ( ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا) التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة حوالى 93 مليون نسمة، أي ما يفوق عدد سكان مصر بحوالى المليونين لا يتعدى 52 مليون دولار، في الوقت الذي تبلغ فيه قيمة صادرات لبنان إلى الأردن الذي يبلغ عدد سكانه حوالى 7 ملايين نسمة 83 مليون دولار!!
أما الصادرات إلى سوريا التي تحل في المرتبة الأولى عربياً مع الإمارات (230 مليون دولار) والعراق (160 مليون دولار) على أهميتها، إلا أنها أيضاً تبيّن مدى الارتباط العضوي للبنان بهاتين الدولتين وخطر تأثره بأي إقفال للحدود مع سوريا إن كان بسبب الحرب الدائرة هناك أو كنتاج لضغط سياسي لجأت إليه دمشق مرات عدة عبر التاريخ.

قد تفوق أرباح
مطعم بسترما
في برج حمود
قيمة صادراتنا
إلى أرمينيا

استغلال الاغتراب والتاريخ والجغرافيا

جيراننا الودودون في قبرص لا يصلهم من صادراتنا إلا ما قيمته 9.7 ملايين دولار فقط. أما إيران بسوقها الهائلة وتاريخ علاقاتها مع لبنان فلا يصدّر إليها إلا 14 مليون دولار، أي أقل بـ 8 ملايين دولار من قيمة الصادرات إلى اليونان (22 مليون دولار).
الرقم المفجع هو صادرات لبنان إلى أرمينيا الذي يثبت أن لبنان لم ينجح في استغلال العلاقة التاريخية مع أرمينيا، ومن أبرز تجلياتها العدد الكبير من سكانه الذين هم من أصل أرميني. حصة أرمينيا من مجمل صادراتنا الخارجية تبلغ 480 ألف دولار. بمعنى آخر إن أرباح مطعم بسترما وسجق في برج حمود تفوق قيمة صادراتنا إلى هذه الدولة الصديقة.
في ما يتعلق بالدول التي تحتضن الأعداد الأكبر من المغتربين اللبنانيين، فالأرقام أيضاً كارثية. البرازيل التي يقدر عدد المغتربين فيها الذين هم من أصل لبناني بحوالى 8 ملايين لا يصدّر إليها لبنان إلا ما قيمته 17 مليون دولار فقط، مع التذكير بأن هذه الدولة رئيسها الحالي من أصل لبناني.
أوستراليا وكندا اللتان تضمان أعداداً غفيرة ومؤثرة من اللبنانيين يصدّر إليهما ما قيمته 13 مليون دولار و20 مليون دولار على التوالي فقط.
حتى في أفريقيا، فالوضع مشابه حيث لا يستفيد لبنان كما يلزم من طاقاته الاغترابية في القارة السمراء حيث توجد جالية لبنانية ضخمة، كما تبيّن الخريطة لكل من نيجيريا وساحل العاج والكونغو وغانا والسنغال.
من ناحية أخرى، لم ينجح لبنان في بناء علاقات اقتصادية متينة مع دول عدة لها جاليات كبيرة في لبنان وذات وزن ديموغرافي وسياسي مهم في محيطها الجغرافي كإثيوبيا على سبيل المثال التي تبلغ قيمة الصادرات إليها 2 مليون دولار فقط، والفيليبين (318 ألف دولار)!!

الدول العظمى والاقتصادات الكبرى

من بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فإن قيمة صادرات لبنان إلى روسيا والصين صادمة بكل المعايير. فالروس الذين لا يبعدون عنا حالياً إلا مسافة عشرات الكيلومترات في حميميم وطرطوس لا يصلهم من صادراتنا إلا ما قيمته 3 ملايين دولار، وهو رقم أقل من 2 مليون دولار من قيمة صادراتنا إلى باكستان!!
الصينيون الذين يطوفون العالم تسويقاً لطريقهم الحريرية والذين استقبل منهم لبنان وفوداً عديدة خلال العام الماضي، من دون أن ننسى حجمهم السكاني والاقتصادي والسياسي يصدّر إليهم لبنان بقيمة 15.4 مليون دولار فقط.
أما جارة الصين اللدودة الهند، التي تحتل المرتبة 7 عالمياً من حيث حجم اقتصادها والمرتبة 2 من حيث عدد السكان، فلا يصلها من لبنان إلا ما قيمته 11 مليون دولار.
ومن اللافت أيضاً أن أندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان، تبلغ قيمة صادرات لبنان إليها 2 مليون دولار فقط. على فكرة، نحن وأندونيسيا أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي!!

* [email protected]