علامات استفهام وتناقضات ومغالطات عدّة، |لا تزال تلفّ شقاً أساسياً من الاتفاق الذي اعلن عن نية عقده قريبا مع ائتلاف الشركات الثلاث، «توتال» (مشغّل ــــ 40%) و«إيني» (40%) و«نوفاتيك» (20%)، للتنقيب عن البترول والغاز وانتاجهما في الرقعتين 4 و9 في المنطقة الاقتصادية الخالصة. هذا الشق الاساسي والبالغ الاهمية يتعلق بحقوق الدولة ودورها في الأنشطة البترولية المزمع القيام بها.
1) السبب الاول لذلك يعود الى ان كل ما تم رسمياً حول هذا الموضوع (بما في ذلك محاضر المفاوضات مع الشركات، وتقرير وزير الطاقة، والتقرير «السري» الذي وضعته هيئة ادارة قطاع البترول بتاريخ 25 تشرين الاول 2017 حول تقويم العروض، بالاضافة الى موافقة الحكومة على مشروع ما سمي خطأ «رخصتين بتروليتين حصريتين بموجب اتفاقيتي استكشاف وانتاج في الرقعتين 4 و 9»)، لا تشير، لا من قريب ولا من بعيد، الى امكانية دخول الدولة كشريك عبر شركة نفط وطنية أو شروط ذلك. فيما وزير الطاقة الحالي ما فتئ يكرر ان نظام الاستثمار هو نظام تقاسم الانتاج، متجاهلاً ان هذا التعبير ليس له اي معنى الا في حال مشاركة الدولة، وانه لا يوجد بين مئات عقود تقاسم الانتاج المعمول بها في العالم عقد واحد تجرأ احد على تسميته كذلك، على رغم تغييب الدولة وشركتها الوطنية.
علاوة على ذلك، يوجد تناقض في الحديث عن «رخصتين بتروليتين» من جهة و«اتفاقيتي استكشاف وانتاج» من جهة ثانية. هذا التناقض هو نتيجة انحراف اساسي في المرسوم 43/2017 الذي دمج مراحل الاستكشاف والتنقيب والانتاج في نموذج استكشاف وإنتاج واحد، وفي اتفاق واحد، يوقع سلفاً لكل هذه المراحل ولمدة تناهز الاربعين عاماً. ما يتم عادة هو منح رخصة استكشاف حصرية ولبضع سنوات فقط للشركة المعنية، يصار بعدها، في حال حصول اكتشاف او نتائج واعدة، الى عقد اتفاقية انتاج تغطي جزءاً فقط من مساحة رخصة الاستكشاف. بهذا الشكل، تكون الدولة على بيّنة من أمرها، وفي وضع تفاوضي افضل لتحديد شروط اتفاقية الانتاج مع الطرف الاجنبي. الا ان الامور في لبنان، في هذا الموضوع كما في غيره، تسير بعكس ما يحصل في البلدان الاخرى وبعكس المنطق وبعكس المصلحة الوطنية.

هناك تناقض في الحديث
عن «رخصتين بتروليتين» من جهة و«اتفاقيتي استكشاف وانتاج» من جهة أخرى

2) السبب الثاني، والاهم بكثير، لعلامات الاستفهام وللمغالطات هو التلويح بامكانية انشاء شركة نفط وطنية، وربما دخولها كشريك في حال توصل الطرف الاجنبي الى اكتشاف تجاري، بحجة ان مشاركة الدولة في كلفة الاستكشاف، كما يردد بعض المسؤولين، تؤدي الى خسائر في حال عدم التوصل الى اكتشافات. هذه النظرية العجيبة اوجزها رئيس هيئة ادارة قطاع البترول آنذاك، في مقابلة نشرت في جريدة «النهار» (20 نيسان 2017)، عندما سئل عن سب عدم دخول الدولة كشريك عند توقيع العقد. وقد جاء جوابه حرفياً ان «هذا الامر ليس لأبد الآبدين، فمرسوم تلزيم البلوكات يمكن ان يعدل بمرسوم آخر، اذ عندما نتأكد ان هناك اكتشافات واعدة في البحر، يمكن ان ندخل بنسب معينة وتكون النتيجة مضمونة أكثر».
الظاهر ان مدير الهيئة المذكورة لم يكن يعلم، عندما تفوّه بهذا الجواب، ان الدولة لا تخسر دولاراً واحداً جراء نفقات الاستكشاف في حال عدم التوصل الى اي اكتشاف، نظراً الى أن نظام تقاسم الانتاج المعروف في القارات الخمس يقتضي ان يتحمل الشريك الاجنبي وحده نفقات الاستكشاف ومخاطره، في حين ان الطرف الوطني يدخل كشريك عند حصول اكتشاف تجاري، وبحصّة تتراوح عادة بين 40% و60%. في هذه الحالة فقط، يسدّد الطرف الوطني للشريك الاجنبي تدريجياً حصته من نفقات الاستكشاف، وفق ما يسمى "Carried interest". كما يبدو ان اكبر مسؤول في هيئة ادارة قطاع البترول حينذاك لم يكن مدركاً ان اتفاقيات من هذا النوع تُعقد مع شركات عالمية لمدة تناهز الاربعين عاماً، هي اقرب ما تكون الى معاهدات دولية لا يمكن الغاؤها او تعديلها وفق مزاج هذا المدير او ذاك الوزير! مما يطرح التساؤل عند سماع مثل هذا التصريح المذهل: اين يقف الجهل، واين يبدأ التضليل؟. ولا يقل غرابة عن ذلك انه لم يبادر اي من المسؤولين عن هذا القطاع، بعد، بتصحيح ما جاء فيه، ناهيك عن الاعتذار عما يحدثه من بلبلة وتضليل، خصوصاً أنها ليست المرة الاولى في محاولات تشويه الحقيقة،. فقد سبقتها محاولات اخرى، منها التغني بالاقتداء بالنموذج النروجي المعاكس كلياً لما نراه عندنا، او اليد الخفية التي امتدت لتزوير الترجمة العربية لمقال نشرته اناليزا فيديلينو، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي الى لبنان، في 27 كانون الثاني 2017 في جريدة «الحياة» ( يمكن مراجعة مقال «سياسة نفط وطنية أم تضليل بلا حدود؟» ـــــ «الاخبار»، الجمعة ٢١ نيسان ٢٠١٧).
لقد اخطأت بعض الصحف عندما استنكرت، في مناسبات عدة، مستوى الرواتب التي يتقاضاها اعضاء مجلس ادارة هيئة البترول، مشيرة الى انها تضاهي ضعف معدل مخصصات رؤساء الوزارات في اوروبا الغربية. وهي أخطأت لأن الأهم، والأخطر، في الموضوع ليس مستوى الرواتب مهما كانت، بل كفاءة اشخاص سُلموا مسؤوليات بهذا الحجم من دون ان تكون لمعظمهم علاقة بها، مع كامل التقدير لكل مؤهلاتهم وتجاربهم في مجالات اخرى.
3) السبب الثالث للمغالطات المشار اليها هو محاولة تبرير عدم مشاركة الدولة بعذر اقبح من ذنب، كما تبين خلال «ورشة العمل» التي نظمتها هيئة البترول في 21 كانون الاول الماضي، عندما تكرم احد المسؤولين عن اليئة بالاشارة المذهلة الى «امكانية مشاركة الدولة تجارياً مع ائتلاف الشركات مستقبلاً عبر شركة وطنية او غيرها من الوسائل». الا ان هذا المسؤول لم يوضح ما يعنيه بكلمة «تجارياً»، ولماذا تجارياً فقط. هل المقصود عقود الخدمات التي بادر البعض لتأسيس شركات خاصة بها تحت اسماء مستعارة؟ او تسويق الاتاوة وحصة الدولة من الارباح والتي يحق للدولة، وفق المادتين 23 و24 من المرسوم 43/2017، تقاضيها نقداً او عينياً، بقيمة قد تبلغ المليارات من الدولارات، كما يحق لوزير الطاقة، وفق المادة 8 من المرسوم 10289/2013، التدخل مباشرة في طريقة تسويقها؟ هل هذا أفضل وأضمن اسلوب للتصرف بثروة تعود ملكيتها لكل اللبنانيين؟
الجواب على ذلك بالعربية الفصحى هو ان مشاركة الدولة الفعلية يتم تثبيتها عند توقيع الاتفاق لا بعده، وان هذه المشاركة تتم عبر شركة نفط وطنية، من الافضل ان يكون رأسمالها مفتوحا لكل مواطن ضمن الشروط والضمانات اللازمة. هذا ما حصل ويحصل في اكثر من 70 دولة في العالم تمارس نظام تقاسم الانتاج. ولا بد من الافادة من اهتمام شركة بحجم «توتال» وخبرتها لتولي مسؤولية المشغل بحصة تتراوح من 40% الى 60% (ربما الى جانب شركة كبرى او اكثر)، مقابل حصة لا تقل عن 40% للشركة الوطنية.
كل ما عدا ذلك من كلام حول ضرورة انتظار انشاء شركة وطنية، او حصول اكتشاف تجاري واعد، او امكانية تعاون تجاري «مستقبلاً» مع الشركات الاجنبية العاملة، كلام هراء غايته الاسراع في التوقيع على عقد مع مجموعة شركات لا مكان لشركة وطنية بينها، وغدر اللبنانيين بأمر واقع جديد، والتمادي باستباحة ثروتهم النفطية وحقوقهم وآمالهم.