لا يمكن أن نضع اللائمة على «خصومنا» الذين «يصطادون في الماء العكر»، ويستغلّون سقطاتنا. لكن، من واجبنا أن نحاسب أنفسنا إذا ارتكبنا خطأ سياسياً، أو هفوة في الصياغة، أو زلّة في التعبير، بالمعنى الذي يعطيه علم النفس التحليلي للكلمة: lapsus. وفي هذا السياق يندرج بيان المكتب الإعلامي للوزير جبران باسيل، أمس، وقد جاء استدراكاً لما صدر عن معاليه من مواقف تقريبيّة، وصياغات مقلقة، أوّل من أمس، في «حوار الساعة» على محطّة «الميادين».
لكن البيان الذي أعقب حملة استنكار عارمة، يشوبها الذهول وعدم الفهم أحياناً، بالتوازي مع حفلة تشفّ لذيذة من صهاينة الداخل والخارج، بقي للأسف في دائرة التبرير والتفسير والتصحيح الملتوي للأخطاء، والاختباء خلف «المبادرة العربية للسلام المجمع عليها في بيروت في آذار/ مارس 2002، والتي لا يزال لبنان موافقا عليها»… ولم يرقَ إلى التوضيح والتعديل!
في «صومعة» اللقلوق المحاطة بأول ثلوج الموسم، استقبل وزير الخارجيّة الزميلة لانا مدوّر. وردّاً على سؤالها حول مؤشرات دخول «النظام العربي» في مرحلة «التطبيع مع إسرائيل»، تفتّق عقله السياسي عن مقولة غريبة، وغير متوقّعة. قال بالحرف الواحد: «بالنسبة إلينا، القضية ليست أيديولوجية. نحن لا نرفض وجود إسرائيل أو حقها بالأمن، لكننا نقول إننا نريد أن تعيش كل الشعوب بأمان، ويعترف بعضها بالبعض الآخر». هكذا دفعة واحدة؟ الاعتراف بإسرائيل وشرعيّة احتلالها فلسطين، وحقّها بالأمن والوجود المطمئن. ما الذي حدث فعلاً؟ ومن أين هذا الحنين، اللاواعي، إلى «اتفاقية 17 أيّار»؟ إسمعوا تغريدة «غوي الشبات» جيري ماهر: «جبران باسيل في اجتماع وزراء الخارجية العرب جعل من نفسه صلاح الدين الايوبي في الدفاع عن القدس، وفي لقاء معه على قناة «الميادين» قال انه يؤمن بوجود دولة اسرائيل وحقها في ان تنعم بالأمن والسلام (…)».
لا، طبعاً، لا يمكن التصديق. لا يقصد الوزير باسيل كل ذلك، ليس تماماً على الأقل. هل هو قصور في الصياغة مثلاً؟ أي أنّ الجزء «الايجابي» من المعادلة المشروطة، («ايجابي» من وجهة نظر الرجل الأبيض طبعاً)، لم يُستكمل كما ينبغي بالشق الآخر الذي هو شرط «الايجابيّة»: أن يسترد العرب كل حقوقهم المسلوبة، ويعود الفلسطينيون ليعيشوا على أرضهم بحريّة! حتّى هنا، توجد مشكلة مع طرح لا يبدأ بالكفاح المسلّح كطريقة وحيدة للتعامل مع كيان الاحتلال. هل حاول أن يضع نفسه (ومعه لبنان والعهد) في موقع التلميذ الشاطر الذي يحب أن يعجب «الغرب واسرائيل»، ولو على حساب القضيّة المركزيّة؟ تلميذ شاطر يصلح أن أن يكون ذات يوم «رئيساً صالحاً» على طريقة أبو مازن؟ ما معنى «القضية ليست أيديولوجية» يا معالي الوزير؟ أليس الصراع مع إسرائيل وجوديّاً، وكيانيّاً، وحضاريّاً؟ أليس هذا الكيان الاستيطاني السبارطي الذي تأسس على المذبحة المتواصلة إلى اليوم، مزروعاً فوق أرض عربيّة اغتصبت عنوة، وذْبح شعبها وشُرّد؟ ما الذي جاء بمصطلح «الايديولوجيا» أصلاً؟ مهما بذلنا من جهد، يصعب التسامح مع وزير للخارجيّة تعثّر في طريقة اختيار عباراته، وصياغة خطابه! يصعب أن نرد على حملات التشفّي.
لكن، ماذا لو كانت سقطة باسيل على «الميادين»، مشكلة وعي سياسي جديد في طور التشكّل؟ لنحاول التعبير بطريقة أخرى. هناك بالتأكيد أكثر من جبران باسيل. واحد زعيم طائفي يزرع الصلبان، ويلعب على الخوف من «الغريب»، ويقترح القوانين الانتخابية الفئويّة… والآخر رجل دولة وريث مشروع ميشال عون الوطني: لبنان القوي لكلّ أبنائه بلا تمييز. واحد يجرّ رغماً عنه ارث «الوعي الانعزالي» المذعور، وآخر يتصدّر خط الممانعة، وينتهر ممثلي الأنظمة العربيّة في القاهرة، أن «لا وجود لنا من دون فلسطين وعاصمتها القدس». هذا هو الواقع اللبناني المعقّد الذي يجب أن نقبل به، ونعمل على تغييره، فنحن لا نستطيع اعادة صياغته حسب تمنياتنا. جبران باسيل آت من بعيد، ليقف حيث هو الآن. لقد نقل ميشال عون «المسيحيّة السياسيّة» من سيكولوجيّة الخوف والانعزال والعصبيّة والانتماءات الضيّقة (والتعامل مع إسرائيل)، إلى قلب الوطن، إلى أفق العروبة الرحب، إلى طليعة المواجهة مع الاحتلال. إلى حيث هم المسيحيون العرب منذ ما قبل الحروب الصليبية، صنّاع نهضة ومقاومة، وحيث يجب أن يعودوا بعد انحسار المشروع الانتحاري الذي كاد يقتلعهم من حركة التاريخ. وهذه النقلة رحلة طويلة النفس، اكتمالها يتطلّب وقتاً، ونموّاً، ونضجاً، وظروفاً مؤاتية.
من الأفضل أن ننظر إلى جبران باسيل بصفته ابن هذه السيرورة. ثمرة مشروع قيد الاكتمال لا نريده أن يتعثّر. لا بد من مزيد من الجهد كي يفهم اللبنانيّون العالقون في «المسيحيّة السياسيّة» أنّهم ورثة النهضة، أنّهم قلب العرب، أنّهم طليعة العروبة… لا أهل ذمّة. وأن المعركة مع الاستعمار معركتهم قبل الآخرين، ومكمن قوّتهم، ودورهم التاريخي والحضاري، ومستقبلهم. هكذا يمكن أن نطوي «سقطة اللقلوق» التي تجد جذورها في ترسّبات الزمن القديم، وطعجاته العاطلة. ولدينا ما يعزّز رهاننا المستقبلي، وما نتمسّك به باعتزاز: صورة جبران باسيل، قبل أسابيع، يلقي خطابه التاريخي في القاهرة، هاتفاً بإسم القدس، عاصمتنا الأبديّة.